كيف تحتفظ بهويتك الإسلامية في ألمانيا؟ قصص ملهمة

إذا كنت مسلمًا تعيش في ألمانيا أو أي بلد أوروبي آخر، فلا شكّ أنّك قد شعرت في فترةٍ ما - أو ما زلت تشعر - بمعاناة أثناء محاولة التمسُّك بهويَّتك الإسلاميَّة بينما تتفاعل مع المجتمع. ففي مجتمعٍ تتعايش فيه ثقافات ومعتقدات مختلفة، قد يكون الحفاظ على هويَّتك الإسلاميَّة أحيانًا بمثابة معركة شاقَّة.
سواءً كان الأمر يتعلّق بصعوبة أداء الصلوات الخمس على مدار يوم العمل أو الدراسة أو صعوبة الزواج بالطريقة الشرعيّة أو عدم وفرة الأطعمة الحلال أو الخوف من ارتداء الحجاب مخافة التعرُّض للتضييق، فهناك عدد لا حصر له من التحديّات التي ستقابلك كمسلم أو مسلمة في المجتمع الألماني.
ومع التعرُّض لكم كبير من الضغوطات الاجتماعيّة أثناء محاولتك للانخراط في المجتمع، قد يكون التمسُّك بهويّتك أمرًا صعبًا في بعض الأحيان. ولكن ماذا لو استطعت ليس فقط الحفاظ على هويتك، بل أيضًا إلهام الآخرين من خلالها؟
في هذا المقال، سنعطيك أهم النصائح للحافظ على هويّتك الإسلاميّة ونشارك معك بعض القصة الملهمة لأشخاص نجحوا في الاندماج في المجتمع مع الحفاظ على هويّتهم. وبحلول نهاية هذا المقال، ستجد الإلهام ليس فقط للتمسُّك بقيمك الدينيّة، بل لتكون مصدر تشجيع ودعم لغيرك من المسلمين في ألمانيا.
اقرأ أيضًا: كيف تتغلب على الشعور بالوحدة كمسلم في الغرب؟
ما هي التحديّات التي تواجه الهويّة الإسلاميّة في ألمانيا؟

لا شكّ أنّ العيش كمسلم في ألمانيا هو تجربة مليئة بالكثير من التحديّات! وعلى الرغم من أنّ ألمانيا معروفة بحريّتها الدينيَّة وبيئتها المُتنوعة ومُتعدِّدة الثقافات، إلا أنَّ ممارسة شعائر الإسلام في بلد ذي أغلبيَّة غير مسلمة قد تكون أصعب مما تتخيّل. في الواقع، يسعى العديد من المسلمين إلى الموازنة بين دينهم ونمط الحياة الغربي الذي يعيشون فيه، لكنَّهم غالبًا ما يواجهون عقبات كبيرة تختبر التزامهم بدينهم.
وحتى تتمكّن من الحفاظ على هويّتك الإسلاميّة والتغلُّب على هذه العقبات، يجب أن تكون مُلمًا بها بالقدر الكافي. وفيما يلي بعض التحديَّات الرئيسية التي ستواجهها كمسلم في ألمانيا أثناء محاولتك الحفاظ على هويّتك الإسلاميّة.
1. الاختلافات الاجتماعيَّة والثقافيَّة
إنّ التكيُّف مع مجتمع ذي معايير ثقافية واجتماعيّة مُختلفة من أكبر التحديَّات التي قد يواجهها أي شخص مُغترب، وهو ما ينطبق بدوره على المسلمين في ألمانيا. كما نعلم، تُركّز الثقافة الألمانيَّة على الأفكار العلمانيَّة المُتحررة، مما قد يتعارض أحيانًا مع بعض القيم والشعائر الإسلاميَّة.
على سبيل المثال، غالبًا ما تشمل السهرات الشبابيّة في ألمانيا شرب الكحول، وهو الأمر الذي يتنافى مع التعاليم الإسلاميّة. وقد يكون من الصعب عليك الخروج لقضاء بعض الوقت مع أصدقائك الألمان دون الانخراط معهم في الأنشطة التي يقومون بها، وعلى الجانب الآخر قد يؤدي رفضك للمشاركة معهم إلى الشعور بالانعزال والإقصاء. وبالمثل، تختلف ثقافة المواعدة في ألمانيا عن القيم الإسلاميَّة المحافظة فيما يتعلَّق بالعلاقات، مما قد يُصعّب على الشباب المسلم بدء حياة اجتماعيّة على أساس شرعي سليم.
2. الضغط النفسي للاندماج في المجتمع
يشعر العديد من المسلمين في ألمانيا بضغط نفسي يدفعهم للاندماج في المجتمع، مما قد يؤدي أحيانًا إلى بعض الصراعات الداخليَّة. وقد تدفع هذه الرغبة في الاندماج - سواءً في المدرسة أو الجامعة أو العمل - بعض المسلمين إلى التردُّد في ممارسة دينهم علانيةً.
على سبيل المثال، قد يشعر المُوظَّف المسلم بعدم الارتياح لطلب فترات راحة للصلاة في العمل أو طلب طعام حلال أثناء تناول الغداء مع زملائه. بالإضافة إلى ذلك، قد لا تكون المظاهر الإسلاميّة مثل ارتداء الحجاب مألوفةً لدى بعض الألمان، وهو ما قد يضغط بدوره على الفتاة المسلمة للتخلي عن حجابها حتى لا تكون معزولةً أو منبوذةً من المجتمع
3. تحديّات مكان العمل والتعليم

إذا افترضنا أنّ المسلم المقيم في ألمانيا سيتمكّن من التغلُّب على الضغط النفسي الذي يدفعه للاندماج في المجتمع وسيحافظ على هويّته برغم هذا الضغط، تظل هناك بعض التحديّات التي تتجاوز مُجرّد العامل النفسي. فقد تُشكّل أماكن العمل والدراسة في ألمانيا عوائق وصعوبات أمام المسلمين الملتزمين.
على سبيل المثال، قد يواجه الطلاب في الجامعات مشكلة تعارض جداولهم الدراسيَّة مع أوقات الصلاة أو صيام رمضان. وقد يجد البعض أيضًا صعوبة في الحصول على طعام حلال في الحرم الجامعي. وبينما تُقدّم بعض الجامعات تسهيلات للطلاب المسلمين، قد لا يكون البعض الآخر مُتفهمًا، مما يترك الطلاب المسلمين ليجدوا حلولهم الخاصَّة.
وعلى الرغم من أنّ القانون الألماني يحمي حريّة التعبير الديني، إلا أنَّ بعض الشركات لديها سياسات صارمة تجاه الحجاب حيث يُفضلون المظهر "المحايد" وقد يتردَّدون في توظيف أشخاص يبدو عليهم أنَّهم مسلمون. وبالمثل في بعض المهن، قد يُنظر إلى ارتداء الحجاب على أنَّه عائق أمام التقدُّم الوظيفي.
اقرأ أيضًا: التعامل مع الإسلاموفوبيا: نصائح عملية للمسلمين في أوروبا
4. تحديَّات تربية الأطفال
من الأكيد أنّ الجمع بين تربية الأطفال على القيم الإسلاميَّة وضمان اندماجهم في المجتمع الألماني يُعد أمرًا بالغ الصعوبة بالنسبة للآباء المسلمين في ألمانيا. فالمدارس الألمانيّة تُعلّم القيم العلمانيَّة، وكثيرًا ما يتعرَّض الأطفال لأفكار وأنماط حياة تتعارض مع التعاليم الإسلاميَّة.
كمثال، قد يكون صيام رمضان صعبًا على الأطفال في سن المدرسة، خاصةً عندما يتناول زملاؤهم الغداء أمامهم. وبالمثل، قد يبدو الاحتفال بالأعياد الإسلاميَّة أقل بهجةً في مجتمع لا يعترف بها كعطلات رسميَّة. وهنا يعاني الآباء أثناء محاولة إيجاد طرق تضمن الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة لأطفالهم، مع تشجيعهم على التفاعل الإيجابي مع زملائهم الألمان.
كيف تحافظ على هويَّتك الإسلاميَّة في ألمانيا؟

يتطلَّب الحفاظ على الهويَّة الإسلاميَّة في ألمانيا مزيجًا من الوعي والجهد حتى تستطيع التأقلم على العيش ضمن مجتمع ذي معايير ثقافيَّة مُختلفة. ومن خلال تطبيق بعض الاستراتيجيَّات الفعّالة، يُمكنك الحفاظ على هويّتك الإسلاميّة وفي نفس الوقت عدم عزل نفسك وأهلك عن المجتمع، وفيما يلي أهم هذه الاستراتيجيّات:
1. أحط نفسك بمجتمع مسلم داعم
لا يوجد طريقة للحفاظ على هويّتك الإسلاميّة في ألمانيا أفضل من الانضمام إلى مجتمع إسلامي يشاركك في القيم والأفكار والأنشطة المختلفة، فتأثير الجماعة أقوى مما قد تتخيّل!
طبقًا لعلم النفس، يُعد إحاطة نفسك بأشخاص ذوي تفكير مُماثل أمرًا هامًا لتشجيعك ومساعدتك على الشعور بأنّك لست وحدك! لذلك، احرص على الحضور المنتظم إلى المسجد القريب من بيتك للصلاة ولا تُفوّت خطب الجمعة واحضر أكبر عدد مُمكن من الدروس أو الفعاليّات الإسلاميّة، حتى تدعم نفسك بقوّة الجماعة.
بالإضافة إلى المساجد، تُعد المنظمات الإسلاميَّة أو الجمعيات الطلابيَّة في الجامعات مصادر ممتازة للقاء مسلمين آخرين وتبادل أطراف الحديث معهم واستمداد القوّة النفسيّة والتشجيع والإلهام من بعضكم البعض. كما أنَّ المشاركة في المناسبات الاجتماعيَّة - مثل إفطار رمضان أو احتفالات العيد - ستُعزِّز من شعورك بأنّك ضمن مجتمع قوي ومُتماسك وتُسهّل عليك الحفاظ على هويّتك الإسلاميّة أثناء العيش في بلد ذي أغلبيَّة غير مسلمة.
2. اجعل منزلك حصنًا لهويّتك الإسلاميّة
منزلك هو بمثابة قلعتك التي تُطبّق فيها قواعدك الخاصّة دون تدخُّل من أحد. وبينما قد يُشكِّل المجتمع الخارجي تحديَّات كبيرة أمام الحفاظ على هويّتك الإسلاميَّة، يبقى المنزل مساحةً آمنة تُسيطر فيها سيطرةً كاملةً على بيئتك وتخلق فيها الأجواء التي تُساعدك على التمسُّك بهويّتك. ومن خلال تهيئة بيئة صالحة في المنزل، يُمكنك تعزيز ارتباطك بدينك بل ونقله إلى أولادك.
ولعلّ أكثر الطرق فعاليةً لخلق هذه البيئة في المنزل هي تشغيل وقراءة القرآن بشكلٍ مُستمر. فقراءة القرآن الكريم طوال اليوم، وخاصةً في الصباح وقبل النوم، تُساعد على تذكيرك بما أنت عليه كمسلم وتحميك من الوقوع في كل ما هو مخالف لهويّتك الإسلاميّة.
أضف إلى ذلك أنّ نوعيَّة المحتوى الذي يتم عرضه في المنزل سواءً عبر التلفاز أو الإنترنت تُؤثِّر بشكلٍ كبير على هويّتك أنت وأسرتك. وبالتالي، يجب عليك اختيار البرامج الإسلاميَّة أو الأفلام المناسبة للعائلة التي تتوافق مع القيم الإسلاميَّة، ومراعاة المحتوى الذي يشاهده أطفالك، وتوجيههم نحو المواد المفيدة.
علاوةً على ذلك، يساعد خلق روتين إسلامي في المنزل على تعزيز هويّتك الإسلاميّة. على سبيل المثال، يجب مراعاة أوقات الصلاة، وقراءة الكتب الإسلاميَّة، وقراءة الأذكار ووضع بعض الصور التي تعرض أحاديث نبويّة أو أدعية على الحائط أو على مكتبك، فهذا من شأنه أن يُعوّد عقلك الباطن على تعاليم الدين الإسلامي ويغرسها بداخلك لتصبح جزءًا أصيلا منك مهما زاد احتكاكك بالمجتمع الخارجي.
اقرأ أيضًا: كيف تستخدم التكنولوجيا بطريقة إيجابية في رمضان؟
3. عزِّز معرفتك الدينيّة
عندما يُبنى الإيمان على معرفة راسخة ووعي، يُصبح من الأسهل عليك الحفاظ عليه والالتزام بدينك بالرغم من التحديَّات الثقافيّة التي تواجهك. فلا شكّ أنّ من أهم الطرق للحفاظ على هويَّتك الإسلاميَّة هي تعميق فهمك للإسلام. فالعلم يُعزِّز ثقتك بنفسك أثناء ممارسة شعائر الدين من خلال معرفة ما الذي ينبغي عليك فعله وما الذي يُمكنك التنازل عنه.
ولأنّ الدين ليس جامدًا أو مقتصرًا على زمان ومكان واحد، فمن المُهم فهم المبادئ الإسلاميَّة في السياق الغربي. فمعرفة كيف توافق القيم الإسلاميَّة مع المبادئ الأخلاقيَّة في المجتمع الألماني سيكون عاملًا هامًا لمساعدتك على ممارسة دينك بالطريقة الصحيحة دون الشعور بالعزلة.
كما أنَّ دراسة القرآن الكريم بانتظام، وحضور المحاضرات الإسلاميَّة سواءً في المساجد أو عبر الإنترنت، ستُعزِّز ارتباطك بالدين. والأهم من حضور المحاضرات الإسلاميّة هو الاختلاط مع غيرك من المسلمين الذين يحضرون هذه المحاضرات. مرةً أخرى لا تستهن أبدًا بتأثير الجماعة!
4. وازن بين اندماجك في المجتمع وحفاظك على تعاليم دينك
لا يدعو الإسلام الفرد المسلم إلى الانعزال عن المجتمع والابتعاد عن الآخرين والاكتفاء بنفسه، بل على العكس فإنّه يُشجِّع على التعارف مع الآخرين ومعاملتهم بأخلاق الإسلام ومساعدتهم كلما استطعت المساعدة. ومع ذلك، قد يتطلَّب الاندماج الناجح في المجتمع الألماني التخلي عن بعض القيم الإسلاميّة وهو ما يجب عليك أن تكون حريصًا بشأنه.
إنَّ ممارسة الإسلام بثقة - كالصلاة في الأماكن العامَّة أو الاعتذار عن تناول الأطعمة المُحرّمة وطلب الطعام الحلال بدلًا من ذلك - هو أمر يُمكنك بسهولة القيام بها لتُحقِّق هذا التوازن. على سبيل المثال، إذا قررت الخروج مع زملائك الألمان للسهر في إحدى الأماكن، فيُمكنك أن تطلب منهم الابتعاد عن المشروبات الكحليّة أو تخصيص يوم من أجلك للسهر بدون وجود هذا النوع من المشروبات على الطاولة.
كمثال آخر، تتوفَّر في العديد من المدن الألمانيَّة مطاعم ومحلات بقالة حلال، ولكن عندما تكون الخيارات محدودة، يُمكنك البحث عن وجبات نباتيَّة أو مأكولات بحريَّة والإفصاح بكل وضوح عن عدم رغبتك في تناول أي طعام مُحرّم.
وتذكّر أنّك إذا احترمت أفكارك ومعتقداتك، سيُجبر الجميع تلقائيًا على احترامها كذلك. فقط افعل ما تمليه عليك هويّتك وقيمك، وسترى كيف سيحترم الجميع ذلك! فالاندماج لا يعني التخلِّي عن الإيمان، بل إيجاد سبل للعيش مع الآخرين بانسجام مع الالتزام بمعتقدات الدينيّة!
5. وفّر وقتًا ومكانًا للصلاة في مكان العمل أو الدراسة
تُعدّ الصلاة من أكثر الأشياء التي تُشكّل الهويّة الإسلاميّة سواءً ظاهريًا أمام الناس أو بينك وبين نفسك، وقد يكون الحفاظ عليها صعبًا في أماكن العمل والدراسة التي تلتزم بجدول زمني غير متوافق مع مواعيد الصلاة. لهذا، يجب عليك أن تُرتّب لهذا الأمر وتضعه في اعتبارك لما له من دور هام في الحفاظ على هويّتك.
في العمل، يُمكنك مناقشة هذا الأمر مع مديرك أو مشرفك، وطلب فترات راحة قصيرة للصلاة. في الواقع، تُوفّر العديد من أماكن العمل في ألمانيا غرفًا هادئة أو مناطق استراحة يُمكن استخدامها للصلاة. وفي حال عدم توفُّر هذه المساحة، يُمكن البحث عن مكانٍ هادئ ونظيف، مثل غرفة اجتماعات غير مُستخدمة أو مساحة مكتب خاصَّة. ومن المُهم عند طلب ذلك من مديرك أن تُوضِّح له أنَّ الصلاة لا تستغرق سوى بضع دقائق ولن تُؤثر على إنتاجيّتك في العمل.
أما الجامعة، فغالبًا ما تُخصِّص الجامعات في ألمانيا غرف صلاة للطلاب المسلمين. ولكن في حال عدم توفُّر غرفة صلاة، يُمكنك طلب الإذن باستخدام مكان هادئ - مثل غرفة الدراسة أو ركن المكتبة - لأداء صلاتك. بالإضافة إلى ذلك، يجب عليك تنظيم جدول محاضراتك لإيجاد وقت للصلاة بين المحاضرات.
اقرأ أيضًا: عادات رمضانية سعودية: ما الذي يميزها عن غيرها؟
قصص ملهمة لمُسلمين حافظوا على هويَّتهم في ألمانيا

1. "هدايت تشوبان" والحفاظ على الإيمان في المجتمع الألماني
وُلد تشوبان ونشأ في مدينة أضنة بتركيا، حيث عمل كتاجر ناجح وحقق ثروةً كبيرة. وعلى عكس العديد من المهاجرين الذين يغادرون وطنهم بحثًا عن فرص أفضل، كان قرار تشوبان بالانتقال إلى ألمانيا مدفوعًا بالصراعات الشخصيَّة أكثر من المشاكل الاقتصاديَّة.
عند وصوله إلى ألمانيا، غمره شعور بالتناقض بين الانبهار بألمانيا وحضارتها من ناحية والحزن الذي أصابه لاغترابه عن بلده. كان ثراء البنية التحتيَّة الألمانيَّة ساحرًا وكانت السيارات الفاخرة تُستخدم كسيارات أجرة! كان فقدان مكانته الاجتماعية واستقلاله الاقتصادي وأمن وطنه عبئًا ثقيلًا عليه. وجد نفسه يعيش في منزل حماته معتمدًا على دعمها، يصارع شعور النزوح. حتى أبسط تعليق كتعليق على استهلاك الماء جعله يشعر بالغربة، وكأنَّه لم يعد له مكان خاص به.
ومع ذلك، في خضم هذه الاضطرابات، وجد هدايت العزاء في إيمانه. أصبح الإسلام ملاذه، يمنحه شعورًا بالانتماء بينما بدا كل شيء آخر غريبًا. لجأ إلى المسجد المحلي، حيث وجد مجتمعًا من المسلمين الذين يشاركونه تجارب مماثلة. أصبح المسجد أكثر من مُجرَّد مكان للعبادة، بل كان ملاذًا يتواصل فيه مع الآخرين، ويشاركهم نضالاته، ويستمد القوَّة من إيمانه. ساعدته دروس الصبر والمثابرة التي تعلَّمها في الإسلام على اجتياز صعوبات الهجرة.
مع مرور الوقت، أعاد تشوبان بناء حياته تدريجيًا. تعلَّم اللغة، وحصل على وظيفة، واستعاد استقلاليَّته. لكن على عكس كثيرين ممن اندمجوا بالتخلي عن جذورهم، ظلّ ثابتًا على هويَّته. واصل الصلاة والصيام في رمضان، وحافظ على القيم الإسلاميَّة رغم تحديات العيش في مجتمع يغلب عليه غير المسلمين. أصبح التزامه بدينه مصدر إعجاب بين زملائه وجيرانه، مُثبتًا أن الاندماج لا يعني بالضرورة فقدان الهويَّة!
2. حسن والصدمة الثقافيّة
نزل حسن من الطائرة متوجهًا إلى ألمانيا، لا يحمل إلا حقيبة سفره وثقل أحلامه. ترك خلفه دفء مدينته وعائلته وأصوات الأذان التي تتردَّد في الشوارع. في هذه الأرض الغريبة، بحث عن فرصة، لكنَّه كان يعلم أيضًا أنَّ التمسُّك بهويته كمسلم سيكون معركةً بحد ذاتها.
كانت الأيام الأولى هي الأصعب. جعل حاجز اللغة حتى أبسط المهام تبدو وكأنها تحديات لا تُقهر. طلب الطعام، والسؤال عن الاتجاهات، وفهم الإجراءات القانونية في منزله الجديد - كل شيء بدا وكأنه لغز. ثم جاءت الصدمة الثقافيَّة! تشابكت أيدي الأزواج في الشوارع، وامتلأت المقاهي بالضحكات بطريقةٍ غير مألوفة، ولم تعد صلاة الجمعة لحظةً جماعيةً تتشاركها مدينة بأكملها، بل تجمعاً هادئاً لأرواحٍ متفرقة في أرضٍ غريبة.
رغم الغربة، رفض حسن أن يضعف إيمانه. وجد العزاء في الصلاة، وفي القرآن الذي كان يحمله معه دائمًا، وفي العائلات المسلمة القليلة التي استقرَّت في الحي نفسه. أصبح المسجد ملاذه الآمن، ليس مُجرَّد مكان عبادة، بل منزلًا بعيدًا عن الوطن، ومساحةً لم يعد فيها غريبًا. التقى بكبار السن الذين عاشوا في ألمانيا لعقود، وشبابًا مثله يبحثون عن هدف، وأطفالًا يتعلَّمون الألمانية جنبًا إلى جنب مع العربيَّة.
كرّس حسن نفسه لإتقان اللغة الألمانيّة، حيث كان يستيقظ فجرًا لأداة صلاة الفجر، ثم يقضي ساعات في القراءة والتدرُّب والكتابة بالألمانيَّة. ببطء ولكن باستمراريّة وثبات، أصبحت الكلمات أسهل. بدأ يتحدَّث بثقة أكبر، وينخرط في الحوارات مع الألمان، بل ويساعد الوافدين الجدد الذين واجهوا نفس الصعوبات التي واجهها سابقًا.
وفي النهاية، حصل على وظيفة مستقرة، والأهم من ذلك، أنَّه أصبح جسرًا بين الثقافة الإسلاميّة والألمانيّة، حيث أظهر لزملائه جمال إيمانه - ليس بالكلام، بل بالأفعال. كان لطيفًا وصادقًا ومجتهدًا. مع حلول رمضان، شرح لزملائه الصيام بصبر، وعندما رأوا تفانيه، أبدى الكثيرون إعجابهم به. حتى أنَّ بعضهم صام معه احترامًا له.
صحيحٌ أنّه لا تزال هناك بعض التحديَّات التي تواجهه. فقد وصفه أحد المارَّة ذات مرة بأنَّه "إرهابي" لمجرد ارتدائه العباءة الإسلاميّة في طريقه إلى المسجد. لكن بدلًا من أن يغضب، ردّ باحترام. قال وهو ينظر إلى الشخص في عينيه: "أنا رجل سلام. الإسلام يعلمني الحب والصبر وفعل الخير. وأنت مُرحّب بك في أي وقت لمعرفة المزيد عنه."
مرّت السنوات، وأصبح حسن شخصيةً محترمةً في بلدته. لقد حافظ على هويَّته الإسلامية ليس بعزل نفسه، بل بالاندماج الهادف المتوازن مع المجتمع الألماني. لقد أثبت أنَّه يُمكن للمرء أن يكون مسلمًا فخورًا بنفسه وبدينه وفي نفس الوقت عضوًا مساهمًا في المجتمع!
اقرأ أيضًا:
3. حسين فارس والدعوة إلى الإسلام
في قلب مدينة شتوتغارت الألمانيَّة، عاش مهندس من مصر يُدعى حسين فارس. على عكس كثيرين ممن غادروا وطنهم سعيًا وراء النجاح المهني فقط، حمل حسين معه غايةً أسمى: إيمانه.
في كل سبت، وبينما تعج المدينة بالمتسوقين والسياح، كان حسين يقف ثابتًا في الشارع الرئيسي، مُتسلِّحًا بطاولة مليئة بالكتب، وقلبٍ يملؤه الإيمان. لم يكن مُجرَّد مهندس، بل كان داعيةً إلى الله، يسعى جاهداً لنشر جمال الإسلام في أرضٍ خيّم عليها أفكار مغلوطة حول الإسلام.
وسط تفانيه في الدعوة، انقلبت حياته رأسًا على عقب عندما تزوَّج من امرأة ألمانية. فرغم أنَّه كان يتمنى لها اعتناق الإسلام، إلا أنَّها كانت ثابتة على إيمانها. لم يُجبرها، بل عاش إيمانه بإخلاص ولطف وتفانٍ لا يتزعزع.
مرّت السنوات، ووجدت زوجته التي كانت تنظر إلى الإسلام من بعيد نفسها منجذبةً إلى جوهره. لاحظت صبر حسين، والتزامه الراسخ بإيمانه، وجهوده الدؤوبة كل سبت في الشوارع. في أحد الأيام، والدموع تملأ عينيها، اعترفت قائلة: "أريد أن أفهم الإسلام، أن أفهمه حقًا!"
انغمست في القراءة، وطرح الأسئلة، والتأمُّل، ثم بعد ذلك نطقت بالشهادة معتنقةً الإسلام بقلبٍ يملؤه اليقين. ومنذ ذلك اليوم، وقفت إلى جانب الحسين كل سبت، ليس فقط كزوجة له، بل كشريكة له في الدعوة، تمد يدها للنساء الباحثات عن الحق.
رزقهما الله بابنين، كريم وسامي. نشأ الولدان في بيتٍ مُلهمٍ بالإيمان، وهما يشاهدان والديهما يقفان في الشوارع، مُتحدّين برد الشتاء القارس وحر الصيف، يدعون الآخرين إلى الإسلام. بينما كان الأطفال الآخرون منغمسين في الشهوات والمتع، تعلَّم كريم وسامي فن الدعوة - ليس بالكلام فقط، بل بالعمل والإخلاص والالتزام.
ومع تقدُّمهما في السن، أخذا مكانهما إلى جانب والديهما. كان كريم وسامي يتحدَّثان إلى الشباب، وكانت والدتهما ترحب بالنساء بدفء. معًا، لم يكونوا مجرد عائلة، بل كانوا أشبه بحركة دعويّة صغيرة.
كان تأثيرهم لا يُنكر. اعتنق العشرات ثم المئات الإسلام على أيديهم. لكنَّ جهودهم لم تتوقف عند اعتناق الإسلام. لقد رعوا المسلمين الجدد، وحرصوا على تواصلهم مع المراكز الإسلاميَّة، وتعلُّم اللغة العربيَّة، وتقوية إيمانهم. كلَّما أسلمت امرأة، كانت والدتهما ترشدها بلطف خلال الوضوء والصلاة، وتهديها زي صلاة كامل. وكلما أسلم رجل، كان حسين يعلمه الخطوات الأولى للإيمان ويسلمه كتبًا أساسية باللغة الألمانية. لم يكتفوا بتعريف الناس بالإسلام، بل احتضنوهم كعائلة.
إنّ هذه القصّة ليست مُجرَّد قصّة عن دعوة إلى الإسلام، بل عن قوَّة الإيمان والتمسُّك بالدين. إنَّها تتعلق بالحفاظ على الهوية الإسلاميَّة في عالمٍ غالبًا ما يتحدَّاها. فبينما كان حسين قادرًا على عيش حياة الترف والشهوات كباقي الناس في مجتمعه، إلا أنّه اختار ليس فقط التمسُّك بهويّته بل ودعوة الناس إلى الدين أيضًا!
الخاتمة
ختامًا، لا شكّ أنّ الحياة كمسلم في ألمانيا تحمل في طيَّاتها الكثير من التحديَّات والصعوبات، بدءًا من الضغوطات المجتمعيّة وصولًا إلى المفاهيم الخاطئة عن الإسلام. وبينما قد تعتقد أنّ الحل الوحيد لهذه المعضلة هو الاستسلام للضغط المجتمعي والتخلي عن قيمك الإسلاميّة أو الانعزال عن المجتمع حتى لا تفقد هويّتك، إلا أنّ الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
فكما رأينا في هذا المقال، يُمكنك من خلال بعض الطرق الفعّالة الحفاظ على هويَّتك الإسلاميَّة بينما تُكوّن علاقات طبية مع الآخرين وتندمج في المجتمع كفرد فعّال وإيجابي.
وتذكّر أنّ احترامك لهويّتك وقيمك سيجبر الجميع على احترامها كذلك. فقط عبّر عن نفسك بكل وضوح وبيّن للجميع الحدود التي لا تقبل تعديها كمسلم، وسيتعامل الآخرون معك وفقًا للطريقة التي تختارها. وأخيرًا، لا تنسَ الاشتراك في موقع نثري حتى لا يفوتك أي جديد من مقالاتنا، ولا تتردَّد كذلك في مشاركتها مع الأهل والأصدقاء لتعم الفائدة.
المصادر: dw، ajnet، insightturkey، mugtama، alukah
Mohamed Ahmed
مهندس ميكانيكا باور، أعمل على تصميم وتطوير أنظمة الطاقة، لكنَّ شغفي الحقيقي يكمُن في الكتابة، حيث أؤمن أنها وسيلة قويَّة لنقل الأفكار والتأثير في العالم من حولي. دائمًا ما أسعى لإلهام الآخرين وتشكيل رؤيتهم حول مواضيع متنوعة مثل التكنولوجيا، الثقافة، العلوم، والتطوير الذاتي. لذلك، اخترت ملاحقة شغفي من خلال عملي في كتابة المقالات.