هناك نوعٌ من العلاقات لا يبدأ صاخبًا، ولا يُعلن نفسه خطرًا منذ اللحظة الأولى.
يقترب برفق، كأنّه يأتي طارقًا بابك بنوايا سليمة، ثم ما يلبث أن يتحوّل إلى ضيفٍ دائمٍ لا يغادر،
ضيفٍ لا يطلب الماء… بل يطلب قلبك كاملًا.
ولأننا نخجل من الرفض، نوسّع له المساحة قليلًا… ثم قليلًا…
حتى نجد أنفسنا نعيش على هامش حياتنا، فيما يتربّع هو على المركز بلا استئذان.
أكثر هؤلاء منهِكين ليسوا أشرارًا، بل مجروحين لا يعرفون كيف يضمّدون أنفسهم،
فيحوّلون الآخرين إلى لصقاتٍ نفسية تغطي جراحهم.
وهنا تبدأ الحكاية.
كان المجتمع دائمًا يتحدّث عن الإنسان المؤذي، الخائن، الأناني،
لكن قلّما تحدّث عن ذلك النوع الشائع الخفيّ:
الإنسان الذي يستنزفك بفرط وجوده، لا بفرط غيابه.
إنسانٌ يفتح فمه كثيرًا، وقلبَه قليلًا، وأذنَيه نادرًا.
يأتيك محمولًا على همومه، لكنه لا يأتيك يومًا حاملًا همّك.
يتحدّث عن انكساراته كما يتحدّث البعض عن انتصاراتهم: بفخرٍ خفيّ يطلب الإعجاب والرثاء معًا.
هو لا يريد أن تُصلحه،
ولا أن تُرشده،
ولا أن تقدّم له حلًا.
هو يريد فقط أن تكون هناك…
أن تكون متاحًا…
أن تكون بلا صوت.
وهذا النوع من الناس لا يحتاج إلى علاقة،
بل يحتاج إلى جمهور.
وإذا صادفك، جعلك جمهورًا بلا تصفيق.
أسوأ ما في هذا الإنسان ليس ضجيجه،
بل حقّه الذي يخترعه لنفسه عليك.
يشعرك أنّ انسحابك من مكالمته خيانة،
وأن رغبتك في الراحة جريمة،
وأن انشغالك عن همومه أنانية تستحق التأنيب.
ويكفي أن تقول له: “لا وقت لديّ”،
حتى يعلّق في رقبتك ميدالية القسوة.
لطالما آمنت أن العلاقات الحقيقية تشبه النهر:
تأخذ وتعطي،
وتفيض وتخبو،
وتسير ببطءٍ أو سرعة لكنها تسير.
أمّا هذا النوع من البشر فليس نهرًا…
بل سدًّا يجمّع كل ما يُلقى فيه،
ويمنع عنك حتى قطرة الفرح.
إنه يراك شطّ نجاة،
ويرى نفسه غريقًا أبديًا.
ومشكلته أنه لا يريد أن يتعلّم السباحة،
لأنه وجد كتفًا يتكئ عليه،
وخلط بين الاحتمال والحب.
قد يكون هذا الإنسان أبًا،
أو أخًا،
أو صديقًا،
أو حبيبًا.
فالاستنزاف لا يصنعه البُعد،
بل القرب حين يتحوّل إلى عبء.
وقد يكون صادقًا في ألمه،
لكنه ليس صادقًا معك.
فهو يراك حائطًا متينًا،
ويظن أن الحوائط لا تتعب،
ولا تنهار،
ولا تحتاج إلى من يسندها.
والمشكلة…
أن الذين يُرهقون الآخرين بهذه الطريقة
غالبًا لا يدركون ماذا يفعلون.
إنهم لا يعرفون أنهم سرقوا من وقتك أكثر مما سرقوا من الحياة،
ولا يدركون أن قلبك صار يضيق كلما رنّ هاتفهم،
ولا يشعرون بأن صمتك قربهم
ليس احترامًا… بل استنزافًا.
في لحظةٍ ما، تدرك أن العلاقة لم تعد علاقة.
تدرك أنك أصبحت محرِّكًا سمعيًا لمشاعر غيرك،
وأن وجودك صار وسيلةً لتهدئته،
لا مساحة لراحتك.
وتدرك أيضًا أن مشكلته ليست بكثرة كلامه،
بل بقلة إنصاته.
هو يرسل دائمًا،
ولا يتلقّى شيئًا.
وكأن الحوار معه أحاديّ الاتجاه،
يمتدّ كطريقٍ طويلٍ لا نهاية له،
طريقٍ عليك أن تمشيه وحدك.
والأصعب من هذا كلّه
هو الإحساس بالذنب…
ذلك الإحساس الذي يزرعه فيك بصمته،
بالتنهيدة التي يلقيها في نهاية كل حديث،
بالجملة التي يقولها دون أن يقولها:
“أنا لا أحد لي سواك.”
جملة كهذه تكسر أي قلب،
وتحبس أي إنسان في علاقة ليست علاقة.
لكن ماذا تفعل؟
كيف تنجو دون أن تتحوّل إلى قاسٍ؟
وكيف تحمي نفسك دون أن تخسر أخلاقك؟
هنا تأتي الحكمة لا الشجاعة.
أول خطوة:
حدّد المسافة.
المسافة ليست جفاءً،
بل احترامًا للنفس وللآخر.
قل له بوضوحٍ لطيف:
“أسمعك، لكنني لا أستطيع أن أكون موجودًا دائمًا. لديّ حياتي أيضًا.”
ثاني خطوة:
اجعل الحديث محدودًا بموضوع واحد.
القلب حين يرهق نفسه بالتشتت، يحتاج لمن يعيده إلى الجملة الأساسية.
لا تسمح له بأن يفتح عشرين بابًا لتغرق خلفه.
اسأله:
“ما الشيء الحقيقي الذي يؤلمك؟”
بهذه الجملة تُغلق الفوضى، وتفتح الصدق.
ثالث خطوة:
لا تحاول إصلاحه.
الأمر ليس مسؤوليتك.
ولا أحد يُشفى في حضن شخصٍ منهك.
من يريد النجاة… يذهب إلى النجاة،
لا إلى كتفٍ واحد.
رابع خطوة:
تعلّم أن تُنصت لنفسك قبل الآخرين.
روحك لها حق،
وأعصابك لها حق،
وصمتك له حقّ أيضًا.
خامس خطوة:
إن شعرت أن العلاقة تستنزفك، قلّل القرب.
ليس كلُّ ودٍّ يُحمَل،
ولا كلُّ قربٍ صحيّ.
بعض العلاقات تنمو إذا ابتعدت،
وتختنق إذا اقتربت.
أعمق ما توصّلت إليه بعد هذه التجارب
هو أن الإنهاك لا يأتي دائمًا من القسوة،
بل يأتي من من يعتقد أنه يحتاجك أكثر مما تحتاج نفسك.
ومن يظن أن حضورك واجبٌ دائم.
ومن يرى الاستماع خدمة لا مشاركة.
والأهم…
أن سلامك الداخلي ليس أنانيّة،
بل ضرورة.
ومن يضغط عليك ليأخذ كل وقتك
لن يعطيك شيئًا حين يبرد جرحه.
لأن العلاقة التي تُبنى على الاستنزاف
لا تنتهي بالامتنان،
بل بالانفجار.
في النهاية، قلت لنفسي:
ليس المطلوب أن أقطع الناس،
ولا أن أكون ملاكًا يخدم الجميع،
بل أن أكون إنسانة تعرف حدودها،
وتعرف أن قلبها ليس أرضًا مفتوحة للجميع،
وأن الإنصات فضيلة…
لكنّ الفضيلة تفقد قيمتها إذا تحوّلت إلى عادة تُفرض عليك.
وعرفت أيضًا أن أقسى أنواع التشتت
هو أن تعيش بينك وبين نفسك
وأنت مُثقلٌ بأوجاع لا تخصّك.
لهذا، حين يبتلع الآخرون مساحتك،
لا بدّ أن تستعيدها.
لا بدّ أن تتنفس بحرّية،
وتتكلّم بحرّية،
وتصمت بحرّية.
فالحرية في العلاقات
لا تعني البعد،
بل تعني المساحة التي لا يخنق فيها أحدٌ أحدًا
📚 المراجع
- YouTube
Auf YouTube findest du die angesagtesten Videos und Tracks. Außerdem kannst du eigene Inhalte hochladen und mit Freunden oder gleich der ganzen Welt teilen.
تصفح المرجع ↗