بقلم: احمد ماهر العبد
جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٥©
"كلُّ العداوةِ قد تُرجى مودّتُها
إلّا عداوةَ منْ عاداكَ عن حسدِ."
– الإمام الشافعي
في بيتٍ واحد، رسم الإمام الشافعي خريطةً دقيقةً لأنواع العداوة، ووضع خطًا أحمر تحت أخطرها. فعداوة الحسد ليست كباقي العداوات، لأنها لا تنشأ من خلافٍ على فكرة أو موقف، بل من غيظ دفين يسكن القلب لمجرد أنك موجود، ناجح، محبوب، أو مختلف.
عداوة منطقية يمكن تجاوزها
العلاقات الإنسانية مليئة بالتحديات. قد تعاديك صديقة بسبب سوء فهم، أو يبتعد زميل لأنك خالفت رأيه في أمر ما. هذه العداوات "عقلية"؛ يمكن النقاش حولها، ويمكن للزمن أن يداويها. قد تعود الصداقة بعد اعتذار، أو تتلاشى الضغائن بعد وقفة صراحة. هذه علاقات لا تزال تملك نافذة للشفاء، بابًا للتصالح.
---
لكن الحسد... مرضٌ في الروح
الحاسد لا ينتظر منك اعتذارًا، ولا يطلب تبريرًا. هو يراك مذنبًا لأنك "أفضل"، أو "أكثر حظًا"، أو ببساطة لأنك تُضيء مكانًا يراه هو حقه وحده.
الحسد لا يناقشك، بل يحكم عليك في محكمة خفية داخل قلبه.
عداوته دائمة، لأنه لا يرضى إلا بزوالك، أو تعثرك، أو خفوت نورك.
---
لماذا لا تُشفى عداوة الحاسد؟
لأنها لا ترتكز على فعل، بل على شعور.
أنت لم تؤذه، بل تفوقت عليه – في نظره – وذلك جُرم لا يُغتفر.
المشكلة ليست فيك، بل في مرآته المشروخة. يرى فيها كل ما ينقصه، وكل ما تؤلمه رؤيته في الآخرين.
وكلما صعدت، زاد احتراقه.
هو خصمك الخفيّ، الذي يبتسم في العلن، ويتمنى سقوطك في السرّ.
فلسفة البعد والسكينة
ليس من العقل أن تستنزف روحك في محاولة إصلاح ما لا يُصلح.
سامح من يستحق، وتجاوَز عن من يخطئ، لكن حين ترى في أحدهم عداوة الحسد، فابتعد.
لا لتكرهه، بل لتحفظ سلامك.
النفوس المريضة لا تُشفي بقربك بل بغيابك
الحاسد لا يطلب إنصافًا، ولا يسعى لحوار، ولا يتوق إلى مصالحة. هو ببساطة لا يريدك أن تكون.
وكلما زاد نجاحك، ازداد وجعه، وكلما ازدهرت، ازداد احتراقه.
عداوته ليست عابرة، لأنها ليست عقلية، بل نفسية، والعداوات النفسية لا تُحلّ بالمنطق.
وهنا تتجلّى عبقرية الشافعي، حين فرّق بين عداوةٍ "يُمكن أن تُشفى"، وعداوةٍ "مستعصية"، لأن داءها لا يسكن الجسد ولا الفعل، بل يسكن القلب.
وكيف تطفئ نارًا في قلبٍ لا يعترف أصلاً أنه مُشتعل؟
الفلسفة التي يحملها هذا البيت، أن الإنسان يجب ألا ينشغل كثيرًا بإرضاء الجميع، خاصة أولئك الذين يرفضونك لأنك أنت، لا لأنك أخطأت.
فهؤلاء لا يشفون باعتذار، ولا يسامحون بصراحة، ولا ينقلبون يومًا إلى أحباب، لأن الحسد لا يُصلح العلاقة، بل يُفسد الفطرة.
لذا، لا تستهلك طاقتك في إصلاح ما لا يُصلح.
سامح ما استطعت، وتجاهل ما استعصى، وامضِ في طريقك دون أن تنظر كثيرًا إلى الوراء.
فالنجاح الحقيقي ليس أن تُرضي الجميع، بل أن تبقى صادقًا مع نفسك، حتى لو كان ثمن ذلك أن تُعاديك قلوبٌ أرهقها الحسد.
اقرأ ايضا
كل العداوةِ قد تُرجى مودّتُهاعداوةَ منْ عاداكَ عن حسدِ."
#الحاسد
#عداوات_مستعصية