11 مليون مغربي خارج دائرة العمل: قراءة في أبعاد الصمت الاقتصادي
مقدمة: الرقم الذي يخفي وراءه قصة
عندما أعلنت المندوبية السامية للتخطيط في أحدث تقاريرها عن وجود ما يقارب 11 مليون مغربي في سن العمل (15 سنة فما فوق) هم خارج قوة العمل، أي لا يعملون ولا يبحثون عن عمل، أضاء هذا الرقم الأحمر مؤشراً على أحد أهم التحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد المغربي. هذا الرقم لا يمثل مجرد إحصاء، بل هو قصة مجتمع بأكمله، قصة طاقات معطلة، وأحجام متراجعة، وإمكانيات هائلة معلقة في حالة من الجمود. هذا المقال يحاول الغوص في أعماق هذا الرقم لفهم من هم هؤلاء الأشخاص، ولماذا توقفوا عن البحث، وما تداعيات هذا الخيار القسري أو الطوعي على مستقبل المغرب.
الفصل الأول: من هم الـ 11 مليون؟ تشريح ديموغرافي
وفقاً لتعريفات منظمة العمل الدولية، فإن "قوة العمل" تشمل فقط الأشخاص العاملين وأولئك الذين يبحثون بنشاط عن عمل. وبالتالي، فإن الـ 11 مليوناً هم:
· ليسوا عاطلين عن العمل: لأن العاطل هو من يبحث عن عمل ولا يجده، بينما هؤلاء توقفوا عن البحث أساساً.
· يشكلون النسبة الأكبر: من إجمالي السكان في سن العمل (الذين يقدر عددهم بأكثر من 26 مليوناً)، مما يعني أن أقل من نصف السكان في سن العمل هم من ينشطون اقتصادياً.
التركيبة الأساسية لهذه الفئة:
1. النساء يشكلن الأغلبية الساحقة: تشير الإحصائيات إلى أن ما يقارب 8.5 مليون من إجمالي غير النشطين هم من النساء. وهذا يعني أن حوالي 77% من هذه الفئة من الإناث. هذه النسبة الصادمة تكشف عن واحدة من أعلى فجوات النشاط الاقتصادي بين الجنسين على مستوى العالم.
2. الشباب في مرحلة الانتظار: فئة الشباب (15-24 سنة) تشكل حجماً كبيراً، حيث يفضل جزء كبير منهم مواصلة التعليم أو الانتظار للحصول على وظيفة "مناسبة"، بينما يعاني آخرون من اليأس منذ البداية.
3. سكان العالم القروي: في الوسط القروي، تنخرط النساء بشكل كبير في أعمال فلاحية غير مدفوعة الأجر (فلاحة الكفاف) أو أشغال منزلية، بينما يهاجر الشباب أو ينتظرون فرصاً قد لا تأتي.
الفصل الثاني: لماذا توقف 11 مليون مغربي عن البحث؟ تشخيص الأسباب
وراء هذا الرقم الضخم، ثمة مجموعة من الأسباب المتشابكة التي تختلف باختلاف الجنس والسن والوسط الجغرافي:
1. عبء المسؤوليات العائلية والأدوار النمطية (المرأة أساساً):
· المرأة المنزلية: هو السبب المهيمن، حيث تذكر أكثر من 75% من النساء غير النشطات أن "أشغال المنزل ورعاية الأطفال والأسرة" هي السبب الرئيسي لعدم بحثهن عن عمل. المجتمع المغربي، لا سيما في المناطق القروية والمدن التقليدية، لا يزال يكرس دور المرأة كمسؤولة حصرية عن الشؤون الداخلية للأسرة.
· الصعوبات اللوجستية: نقص بنيات الاستقبال للأطفال (دور الحضانة)، وبعد مواقع العمل، وعدم مرونة ساعات العمل، تجعل التوفيق بين العمل والأسرة أمراً شبه مستحيل لكثيرات.
2. اليأس وفقدان الأمل في إيجاد عمل (البطالة المقنعة):
· "العاطلون المحبطون": هم أشخاص قادرون وراغبون في العمل، لكنهم توقفوا عن البحث بعد سلسلة من الإخفاقات. هم يرون أن الفرص غير متاحة، أو أن المؤهلات التي يمتلكونها لا تتطابق مع متطلبات سوق العمل.
· حاملي الشهادات العليا: بشكل مأساوي، نجد بين غير النشطين أشخاصاً حاصلين على شهادات جامعية. إحباطهم يأتي من عدم عثورهم على وظائف تتناسب مع تطلعاتهم وتخصصاتهم، مما يدفعهم إلى الانسحاب الكلي بدلاً من قبول وظائف دون مستواهم التعليمي.
3. القيود الهيكلية لسوق العمل:
· اقتصاد غير مهيكل: جزء كبير من الاقتصاد المغربي يعمل في القطاع غير المهيكل، الذي لا يوفر عقود عمل ولا حماية اجتماعية. هذا يدفع الكثيرين، خاصة الشباب، إلى النظر إليه كخيار غير جذاب.
· عدم التطابق بين التعليم وسوق العمل: ينتج النظام التعليمي آلاف الخريجين في تخصصات لا يحتاجها السوق، بينما تظل قطاعات مثل السياحة والصناعة والتكنولوجيا تعاني من نقص في اليد العاملة المؤهلة.
4. أسباب اجتماعية وثقافية:
· النظرة الاجتماعية: في بعض الأوساط، لا يزال العمل خارج البيت، خاصة للنساء المتزوجات، غير مرغوب فيه اجتماعياً.
· الإعاقة والصحة: جزء من غير النشطين هم أشخاص يعانون من إعاقات أو أمراض مزمنة تمنعهم من العمل.
الفصل الثالث: التداعيات الاقتصادية والاجتماعية.. ثمن الجمود
وجود 11 مليون شخص خارج دائرة الإنتاج ليس مجرد رقم، بل هو عبء ثقيل على حاضر ومستقبل المغرب:
1. هدر فادح لرأس المال البشري: المغرب يهمل طاقات وإبداعات ملايين من أبنائه، خاصة النساء والشباب. لو أن جزءاً بسيطاً من هذه القوة دخل السوق، لارتفع الناتج الداخلي الإجمالي بشكل ملحوظ.
2. ضعف القدرة التنافسية للاقتصاد: اقتصاد لا يستخدم إلا أقل من نصف طاقته البشرية هو اقتصاد غير قادر على المنافسة الدولية. فقوة الأمم اليوم تقاس بقدرتها على توظيف مواردها البشرية بشكل كامل وفعال.
3. اتساع رقعة الفقر والهشاشة: عندما يعتمد أسرة بأكملها على دخل شخص واحد (رب الأسرة)، فإنها تصبح أكثر هشاشة للمخاطر الاقتصادية (كالمرض، الفصل من العمل، التقاعد). هذا يزيد من معدلات الفقر وعدم المساواة.
4. تآكل النسيج الاجتماعي: يمكن أن يؤدي الخروج القسري من سوق العمل إلى مشاكل نفسية خطيرة مثل الإحباط، والاكتئاب، والشعور بالاغتراب، مما يهدد تماسك الأسرة والمجتمع.
5. تشويه المؤشرات الاقتصادية: يجعل معدل البطالة الرسمي مضللاً. فالمغرب قد يسجل معدل بطالة "مقبولاً" (حوالي 13%)، لكن الحقيقة أن المشكلة أكبر بكثير، وهي مشكلة انخفاض معدل النشاط الذي لا يتجاوز 45%.
الفصل الرابع: أي حلول؟ نحو سياسات لإحياء الأمل
معالجة هذه المعضلة الهيكلية تتطلب سياسات شجاعة ومتعددة الأبعاد:
1. تمكين المرأة اقتصادياً:
· تشجيع تشغيل المرأة: عبر حوافز ضريبية للمقاولات، وفرض حصص للنساء في بعض القطاعات، وتطوير برامج "إكرام" لدعم التشغيل.
· تطوير البنيات التحتية الداعمة: بناء دور الحضانة في أماكن العمل والمجمعات السكنية، وتعزيز وسائل النقل الآمنة للمرأة.
· تغيير النمطية الثقافية: عبر حملات التوعية الإعلامية والمجتمعية بأهمية عمل المرأة واستقلاليتها الاقتصادية.
2. ربط التعليم بسوق العمل:
· إصلاح نظام التكوين المهني: وتطويره ليلبي حاجات القطاعات الإنتاجية الواعدة (الطاقات المتجددة، السياحة، التكنولوجيا).
· التوجيه المبكر: توجيه الطلاب نحو التخصصات المطلوبة في السوق منذ المرحلة الثانوية.
3. تحفيز روح المبادرة:
· دعم المقاولة الصغرى: تبسيط المساطر، وتقديم التمويل الأولي عبر برامج مثل "انطلاقة"، وتوفير الإرشاد للمقاولين الشباب.
4. تعميم الحماية الاجتماعية:
· يجعل نظام التغطية الصحية الأساسية والمعاشات العمال غير المهيكلين أكثر أماناً، ويشجع على الانتقال نحو القطاع الرسمي.
خاتمة: من دائرة اللا عمل إلى دائرة الفعل
الـ 11 مليون مغربي خارج قوة العمل ليسوا رقماً إحصائياً جامداً، بل هم قصة عن طاقات معطلة وأحلام متوقفة. هم يذكروننا بأن معركة المغرب الحقيقية ليست فقط في خفض معدل البطالة، بل في رفع معدل النشاط. تحويل جزء كبير من هذه الكتلة البشرية الهائلة من "غير النشطين" إلى "فاعلين اقتصاديين" هو المشروع الوطني الحقيقي الذي سيفتح أبواب النمو الشامل والمستدام. إنه استثمار في الإنسان، وهو الاستثمار الوحيد الذي لا خسارة فيه.
---
المصدر: معتمد على أحدث التقارير الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط (HCP) والمعهد الوطني للإحصاء بالمغرب.