"جزء مؤلم من حكاية " رواية قتل تحت التأثير

الكاتب

رغد حمزة

متابعة

محامية، كاتبة

قد يكون مدى تأثير الأشخاص علينا كبيراً ، لدرجة التغيير الكبير أو اكتشاف الذات الذي قد يقلب حياتنا تماماً، لكن هل يمكن لهذا التأثير أن يكون شديداً حدّ الهوس والطاعة العمياء؟ هل يمكن أن يصبح راسماً لطريقٍ وعرة تحمل في نهايتها حتف المتأثر دون أن يشعر؟ عالمٌ إجراميّ نفسيّ يخطّه أمير تاج السر بإبداع منقطع النظير ، ويسرد لنا الضحية بنفسه كل ما وقع تحت تأثيره وحوله لما هو عليه.

صدفةٌ تجمع بين طالب ومعلم للشر

سوق الدُفار في مملكة قير وزمنٍ بعيد ، حيث السوق الشعبي الأكبر في المملكة، وتحديداً حيث ركن التمائم وصانعيها، يلتقي بطل الرواية "مرحلي سواركي" بصانع التمائم "ديباج" ، أو كما يصفه "ساحره" ، الذي طاله تأثيره الغريب منذ الدقائق الأولى لتعارفهم، تشاركوا ذكريات لم تكن يوماً موجودة، واسترجعوا أسماءا لم يلتقوا بها من قبل، وضحكوا ضحكات صاخبة تشي بصداقة وثيقة منذ أمد، فما كان من الاثنان إلا أن استغرقا في هذا التعارف الغريب وشدّوا أواصره حتى غدَوا كالجسد وظله.

إقرأ أيضاً : مراجعة لكتاب السماح بالرحيل.

ما هو تأثير ديباج الذي صاغ القصة؟

شعر مرحلي أنه قد سُحر بهذا الرجل منذ اللحظة الأولى، وأنه مستعد للانسياق خلفه في أي شيء يطلبه، ، وهذا ما شعر به ديباج بعمق واستغله حتى القطرة الأخيرة بكل دهاء ، معترفاً أنه قد وجد شخصاً كان يبحث عنه منذ زمنٍ بعيد، منفذٌ أعمى لكل أوامره بكل شغف وانقياد ، شخصٌ لديه بذرة الشر الذي يحمل ديباج خير سقيا لها، وجد كل منهما الآخر وبدآ رحلة الشغف الغريب والمؤلم دون أدنى شعور بتأنيب الضمير أو الخزي من رغباتهم الللاسوية .

فعلاً بدأ ديباج بتحضير مرحلي لمهنة عجيبة أخبره بها سلفاً ووافق الأخير دون الاستفسار عن أسبابٍ حتى، لأنه يعرف أن ما يريده ديباج سوف يتم ولو كان عكس إرادته، ويعرف أنه سيلبيه بكل رحابة صدر.

كان ديباج الواسطة بين أداة القتل التي هي مرحلي والأشخاص الذين يريدون التخلص من بعض الأرواح، يأتي إليه يسلمه رسالة قد كُتبَ فيها فقط اسم الضحية ويذهب، في اليوم التالي تكون المهمة قد تمت، حيث يذهب مرحلي بذات نفسه إلى ركن الإخباريين ،المكان الذي تتناول المدينة فيه أخبارها الطازجة وما استجد من إنجازات تجار القرية أو جرائم القاتلين الليليين أو أوامرَ عاجلة للملك .

وفي كل مرة يستمع مرحلي لخبر وفاة ضحيته يدخل في حالة من النشوة المخبولة التي تتمثل بضحك هستيري وحضن شيء صلب كشجرة مثلاً، وتنتهي بموجة صاخبة من البكاء . هذا كان ديدنه في إدمانه الغريب لتلك الحالة التي يتسببها القتل في نفسه، كان فيه ما ينشيه ويمده بقوة غريبة، حتى أنه تصالح مع كوابيس وأشباح الضحايا التي كانت تزوره يومياً دون انقطاع، فيأتي إليه صاحب الروح ويقول:

- مرحلي سواركي، هل قتلتني؟

- نعم يا أخ.

- لماذا؟؟

- لا أدري .

وكان يدور هذا الحديث مرات ومرات وبصيَغ مختلفة، مرات ببكاء وعويل أنثى ، ومرات بصراخ وغضب مستشيط لرجل، ومرات بصوت طفل صغير لم يعرف لمَ قتله هذا الرجل !

صياغة فريدة لقصة غير جديدة

بالطبع هناك العديد من الروايات التي تتناول مسألة القتل وخاصة من خلال الطابع النفسي الذي شكّل تلك الشخصية، بتفاصيل كثيرة وصحيحة من حيث نشوة القتل أو الأذى بالعموم وكيفية تعقب العنصر الداخلي الدافع لاقتراف الجرائم، لكنّ الوضع هنا مختلف تماما لدى أمير تاج السر، لأن طرحه كن غريباً ومنطقياً بشكل لا يعقل، فهو يتناول الدافع النفسي ولكن بتأثيرٍ خارجي، وهذا ما يسبب شعور القاتل في بعض الأحيان بقليلٍ من التردد أو التساؤل النفسي إن كان سيكمل هكذا أم سيترك ساحره والأمر برمته ويولي ظهره لهذا الماضي الشنيع.

في بداية الرواية يسرد البطل عن تجربة غريبة له مع ديباج، وهي بالأخص في بداية علاقتهما، وكان قد سأله عن سببها فأجابه ديباج : " ستعرف عندما يحين الوقت" ولم يجبه إلا بعد مرور السنين وفوات الأوان بالنسبة لمرحلي.

كانت التجربة أن أخذ ديباج مرحلي إلى "حي وطرة" ، وهو حي قديم متسخ من حيث الأبنية والشوارع وكذلك السمعة، فقد كان حيّ بائعات الهوى والليالي، وكان ديباج من روّاد ذلك المكان ويعرف الكثيرين فيه، قام بجولة على عدة بيوت وبرفقته مرحلي ، رأَوا العديد من الفتيات والنساء اللاتي يتمايلن ويقمن بشتى الحيَل للفوز بزبون محتمل، وبقيا بهذا التجوال لعدة ساعات دون أن يقمن بأيٍّ مما يقوم به كل قاصدٍ لهذا الحي، والغريب أن مرحلي وقد كان شاباً في أوج عنفوانه حينها، لم يطلب منه شيء ولم يسأله عن سبب تلك الجولة غير المفيدة إلا مرة واحدة، أجابه ديباج جوابه ولم يُلحّ هو أكثر.

لم يكشف ديباج عن سر تلك الجولة الغامضة إلا عندما كان قد تخلّص من مرحلي واستبدله بقاتل أحنَك وأدهى، يصغره عمراً ويفوقه قساوة وشراً ، يخبره ديباج في نهاية القصة أن تلك الجولة ما كانت إلا اختباراً لطاعة مرحلي له، وقد تأكد حينها تماماً أنه وجد من إذا قال له اقتل فلاناً فسوف يقتله دون سؤال أو نقاش، وكان هذا ما حدث فعلاً واستعمله ديباج حتى آخر قطرة من شر مرحلي وحبه للأذى.

وحين شعر أن هذا الشخص بدأ شيءٌ ما في إنسانيته يستيقظ تخلّص منه وأرداه في فناء أسود حتى لايُفشى سرّه بين التجّار وأصحاب القرية، فكان ذي سمعة عادية، ليست برّاقة ولكنها بعيدة عن القتل والأذى ، وكان داهيةً حقيقية لا يظهر عليه مدى ذكائه وحنكته ، وربما هذا أكثر ما جعل مرحلي يخضع لسحره الغريب.

الخط الزمني المعاكس

تتميز هذه الرواية الرائعة بخط زمني معاكس، أي أن الكاتب قد أخذنا من آخرها تماما ، من الأحداث التي تشكّل نقطة النهاية في حياة البطل والقصة ككل ، ويعود إلى الوراء حيث بداية تلك الرحلة المشؤومة والتقائه بديباج ونشوء تلك الصلة الدامية ، وذلك دون أدنى عرقلة أو تشتت قد ينتاب القارئ وهو يمشي بالتسلسل العكسي للأحداث، بل يجد نفسه غارقاً في تحليل نفسي عميق جداً لتلك المعاني الصعبة التي يصفها القاتل عن نفسه وما يشعر به، وهذا كان من أفضل المحاور في القصة.

تقييم الرواية

بعد قرائتي للرواية مرتين في فترة زمنية غير قليلة واندماجي فيها في المرة الثانية كالمرة الأولى وأكثر ، فلا يمكنني ألا أعطيها العلامة الكاملة بكل المقاييس، فهي سردية بشكل جميل غير ممل، فيها وصف لكل شيء سواء كان أخلاقياً أم لا ولكن بحذر شديد ودون خرق لحدود الأدب، وهذا إن دلّ على شيء فهو أنه أمير تاج السر كاتب مبدع ومتمكّن من القلم بشكل ملفت، من النوع الذي يمكنه أن يمسك زمام كل الأمور دون خروج أي شيء عن حدود سيطرته أو مبادئه ، وهذا يجلعها رواية كاملة فعلاً تستحق 10/10 وبجدارة .