مراجعة رواية " رقص رقص رقص " ، إبداع آخر من إبداعات هاروكي موراكامي

إن الغوص في أعماق النفس البشرية هو ما يفعله هاروكي دوماً دون أي جهد مبذول من ناحيته، أو هكذا يتراءى لي حين أقرأ كتاباته، وكأن القلم يعينه على السرد الذي لا يمكن وصفه إلا بالجذل ، السلس، المحبب للعقل جدا .
روايته "رقص رقص رقص" فقط مثال آخر عن عن إبداع هذا الرجل وقدرته على وصف ما لا يستطيع غيره وصفه، والخوض في تفاصيله حتى يكاد يكون تجربة حقيقية رغم الخيال المفرط !
هاروكي موراكامي
- من هو ؟

هاروكي موراكامي (مواليد 12 يناير 1949)، كاتب ياباني من مدينة كيوتو اليابانية، لاقت أعماله نجاحاً باهراً حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعاً سواء على الصعيد المحلي أو العالمي وترجمت إلى أكثر من 50 لغة.
حصل موراكامي أيضًا على عدة جوائز أدبية عالمية منها جائزة عالم الفنتازيا (2006) وجائزة فرانك أوكونور العالمية للقصة القصيرة (2006) وجائزة فرانز كافكا (2006) وجائزة القدس (2009).
- هاروكي وأدب الميتافيزيقا

هاروكي موراكامي كاتب متميز في مجال "الميتافيزيقا" أو الماورائيات ، وهو فرع من الفلسفة يدرس جوهر الأشياء. يشمل ذلك أسئلة الوجود والصيرورة والكينونة والواقع . تشير كلمة الطبيعة إلى طبيعة الأشياء مثل سببها والغرض منها، وتحفل مسيرته الروائية بالعديد من العناوين ذي الطابع الميتافيزيقي مثل "كافكا على الشاطئ" ، "1Q84" ، "رقص رقص رقص" ، بحيث يتطرق بها للجانب الروحي والفلسفي للإنسان وظروف عيشه في الحياة بطريقة سردية مشوقة تعكس خيالاً خصباً لديه .
رواية "رقص رقص رقص"
- فندق الدولفين
فندق الدولفين ، أحلام غريبة، فتاة مختفية ذات أثر عجيب، ممثل مشهور زميل في الثانوية ، فتاة في الثالة عشر دون رعاية، وشخص بسيط الحياة والتفكير يعيش في وسط كل ذلك محاولاً فهم المغزى مما يحدث معه !
كاتب مقالات محترف يعيش وحيداً في منزله وحياته، مر بعلاقة عابرة مع فتاتة اسمها "كيكي" ، وهي التي عرفته على فندق الدولفين إذ كانا ينزلان به حين يجتمعان سوياً، كان فندقاً صغيراً ذي جدران قديمة وإضاءة معتمة، تقريبا لن يلحظه أو يرغب بأن ينزل فيه أبداً لأنه مهمش وغير ذي جودة، لكنه كان مميزا بالنسبة لهذا الشخص لما فيه من ذكريات وأيام جميلة له .
اللغز في تذكره لهذا الفندق هو أنه يسكن أحلامه بشكل مستمر لمدة 4 سنوات بعد اختفاء "كيكي" ، دوماً يراه وبداخله شخص يبكي فيه ، ويعتقد أن هذا الشخص يبكي لأجله هو، وكان دائماً يتساءل عن هذا الحلم وعن الفندق، ماذا كان يعني هذا الفندق له دون أن يعرف ؟
- كيف أصبح الفندق ؟

بعد أن وصل لمرحلة اليأس من محاولات تفسير رؤاهٌ تلك قرر أن يذهب إلى ذلك الفندق ويحاول أن يجد الإجابات بنفسه، فكانت الصدمة حين وجد مبنى شاهق الارتفاع بمظهر لافت يوحي بالخمسة نجوم وليس أقل من ذلك المستوى أبداً ! دخل وحجز غرفة وهو في حالة من الاستغراب ، فيما بعد علم أن الفندق قد اشترته شركة مختصة بالاستثمار في الفنادق الراقية، وتحول المكان بشكل جذري عما كان عليه، لكن ومع ذلك استمر يشعر بأن روح الفندق القديمة ما زالت موجودة ، قد يكون التغيير قد أصابه خارجياً دون شك لكن في داخله ما زال الإحساس القديم ذاته، لم يتغير عليه ذلك الشعور الذي يتذكره جيداً منذ أربع سنوات !
إقرأ أيضاً : مراجعة لرواية مكتبة منتصف الليل
- كان الفندق ينتمي إليه !
تعرف إلى موظفة الاستقبال في الفندق وأصبحا صديقين، ولأنها شعرت أنه شخص غريب الأطوار قليلاً وكلامه عن الفندق غريب ، أرادت مشاركته بتجربة غريبة لها في الفندق جعلتها تخاف الانتقال لطابق محدد فيه بعد منتصف الليل خشية تكرار الأمر. شرَحَت له أنه فجأة يلف الظلام كلشيء ويصبح المكان غريباً تماماً عن الفندق ذي الإضاءة الرائعة والأجواء الباعثة على الراحة، يصبح مكاناً مخيفاً يثير ذعر الإنسان، يختفي كل شيء وكل الأضواء ويبقى ظلامٌ وباب فقط، وفي داخل ذلك الباب شيئاً يتحك باتجاهك فتصاب بذعرِ أكبر ! إلى أن يأتي المصعد ينقذك من كل ذلك وتعود عجلة الحياة للدوران مجدداً .
جرب ذلك بنفسه مرة واكتشف السر وراء ارتباطه بذلك الفندق، كيف يتصل كل شيء في حي عقدة محددة وهي في ذلك الفندق ، إن عالمه وكل ما يرتبط به هناك ! وهو محور الرواية الذي شكل الأحداث بتتابع فيمَ بعد وجعل الشخصيات تترابط من خلال الشخصية الرئيسة ، دون تعقيد، دون ملل ، وهذا ليس غريب، فهذا هو موراكامي !
الجوانب الأخرى في الرواية

كعادة معظم روايات موراكامي فإنه يتطرق للجانب الروحاني والنفسي للإنسان ، وروايته "رقص رقص رقص" تزخر بالكثير من التفكر الإنساني بالحياة وطريقة عيشها من أكثر من زاوية ، فكانت تعرض الشخصية الأساسية طريقة الحياة البسيطة، التي تؤثر الانتظار لحلحلة الأمور على الإقدام والتهور لتعجيل أي أمر ، دون حياة باذخة ولا عيش مرهف ، فقط القبول بما هو موجود بكل بساطة.
شخصية صديقه المشهور تجسد نوع آخر من المعاناة أيضاً، الغناء الفاحش وتوفر كلشيء ومع ذلك تكون النتيجة هي اللاسعادة ! يكون ذلك الممثل الوسيم المشهور يمتلك كل شيء حرفياً ، منزل باذخ الأثاث وفيه أجمل التحف، سيارة مازيراتي من الطراز الفاره، أي فتاة تتمنى أن يحبها ، المال والشهرة وكل ما طاب له تحت طوعه، ولكنه لا يريد سوى الحب الذي لم يجده إلا مع زوجته التي انفصل عنها بسبب أهلها ، وكان ذلك سبب معاناته التي انتهت به منتحراً في البحر في سياراته المازيراتي الفارهة !
الشغف الأعمى والحياة معه كم تكون صعبة وبعيدة عن الواجبات والالتزامات ، كيف يؤدي إلى انهيار علاقات أسرية بلا أدنى مسؤولية ، لأن الهدف دوماً هو وفقط !
شخصية الطفلة ذات الثلاثة عشر عاماً والتي يتعرف عليها البطل في الفندق تعكس جانب القوة الناقصة ، قوة في مرحلة النمو والاعتناء دون أبوين، ليس يُتماً ، بل أبوان منشغلان بحياتهما وما يريدانه أكثر من انشغالهم بتلك الطفلة ، ويكون البطل بصدفة لقائها به بابُ ثقة وصداقة قد فُتح لها .
تقييم الرواية

كعادته هاروكي لا يدع للملل مكاناً في رواياته، فسلاسة عرضه للأحداث المتتالية رغم تباينها تجعلك تعيش داخل الرواية وليس قراءتها فقط، تستعرض المواقف وكأنك أمام مشهد حي بوصف مبدع تفصيلي لا يترك للخيال أي مهمة صعبة لاستحضار كل مشهد في الرواية.
تقييمي الشخصي للرواية هو 9 /10 ، ولو أنها تخلو من بعض الفقرات غير المحببة لنا كفئة تحب التقاليد والحدود لكانت تستحق 10/10 بالتأكيد.
المراجع