عندما تناديك الغربة! احزم متاعك واربط على قلبك
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولسنوات طويلة أمضيناها في أحضان الوطن؛ حب عظيم حقًا وراحة نفسية لا تنضب؛ وسيعرف معنى كلامي من تجرع لظى الغربة! لم أكن أعلم بأن الغربة قاسية كليالٍ مرّت على بائعة الكبريت، ولم أكن أعلم بأنها صعبة أكثر من امتحان كيمياء! نعم عندما كان امتحان الكيمياء نهاية العالم بالنسبةِ لي!
الغربة هروبٌ من متاعب الوطن إلى متاعب الحنين
كان باعتقادنا قبل حزم أمتعتنا نحو الغربة بأنها أرض السعادة.. بأنها بوصلة تحقيق أحلامنا لا محالة، باعتقادنا أن كل ما ننعم به في الوطن سيكون معنا في غربتنا أيضًا، لم نكن نعلم بأنها ترمي في أعماقنا جبالًا وأكوامًا من التعب والبكاء.. في الغربة ستكون رسميًا بحالةِ مدٍ وجزرٍ من المشاعر، ففي الأيام الأولى لن تشعر بما تركت خلفك يلوح لك مودعًا إياك أبدًا!
الألم والحنين وبدء الاستغراب يبدأ بزيارتك ليلًا.. بعد أيامٍ وبعد زوال دهشتك من المكان الجديد الذي ارتحلت إليه، أذكر تلك اللحظات بدقة وتحديدًا بعد أن شعرت أن نهاية المطاف هنا.. الاستقرار هنا في أرض الغربة وأن الوطن مجرد وجهة للزيارة فقط! حينها تشعر بأنك تركت خلفك سنينًا طويلة تنطوي بين أيامها ذكريات وحنين .. أشخاص .. أهل .. كل شيء دون استثناء..
في الغربة أنت ولدت من جديد لكنك ناضج .. واعٍ... لكنك تعيد الكرة وتتعرف على من حولك وتتقمص عادات وتقاليد جديدة وكل شيء.. الغربة وألمها يسحق الشجاعة بأي صورةٍ كانت!
كلام عن الغربة
تعتقد بأنني سأبدأ الاستشهاد بأقوالٍ عن الغربة تغنى بها الغير! أبدًا لن يحصل ذلك بل لدي رغبة عارمة بأن أقنعك بكلامٍ عن الغربة من وحي التجربة المريرة التي لم تكمن بالأفراد بالنسبة لي أبدًا! بل بالفقدان .. بالغياب ... بعدم التلاقي أي كانت التسمية ...
وحتمًا كل من في الغربة يقيم بيت عزاء لمشاعره ليواسي بها نفسه في الأعياد .. في رمضان .. في أي مناسبة كانت تتعالى بها ضحكات الأسرة ويجتمعون بها حول مائدةٍ واحدة.
أستذكر بأن أيامًا صعبة كانت تمضي أمامي شعرت حينها بأن العالم بأسره فارغًا وليس به سواي! أيامًا تجرعت مرارة خنقة الدموع حتى لم أتمكن من التلفظ بكلمة وإلا فاضت دموعي بانهمار.. كنت أراقب من النافذة في الأعياد من حولي يجتمعون مع ذويهم.. ما أن تُغلق أبوابهم بعد الترحيب بهم أشعر وكأن القبر قد أغلق أركانه على عظامي .. شعور من شدة الألم يرتجف به قلبي حتى بات يبكيني أي لحنٍ حزين ..
أسوأ ما في الغربة من مشاعر مميتة
خلال عامين ونصف من الغربة في بلدٍ لا أعرف به أحد ذرفت دموعًا من شدة الألم والخنقة والحنين تكاد يفيض بها نهر النيل ... لا أخفيك أنني رغم عودتي لموطني والآن أكتب هذه السطور من ربوعه الدافئة؛ إلا أن عيناي ترغرغت بالدموع عندما استذكرت اللحظات التي ارتجفت بها شفتاي محاولة إخفاء البكاء.. حقيقةً لم أُظلم أبدًا ممن حولي .. والمشكلة لم تكمن بمن يعيشون معي أبدًا! بل أن شعور أنك بلا أحد .. فقط أنت عليك أن تواجه الحياة بحلوها ومرها .. إن ضاقت بك الدنيا ليس هناك ملاذ سوى وسادتك فقط! والتي أيضًا هي غريبة عنك وصنعت بخيوطٍ غريبة عنك لكن يبدو أنها قد أشفقت علي في غربتي وباتت وأصبحت تطبطب عليي وكأنها تبث الأمان في أعماقي لكن بلا جدوى .. عند أول اتصالٍ هاتفي من أرض الحنين بلادي أشعر بالغربة أكثر وأن حتى هذه الوسادة أستذكر غرابتها عني.
قبل السفر واتخاذ القرار بالغربة تشعر بأن الأمر بمنتهى التفاهة عند الحديث عن صعوبتها، باعتقادك أن الأمر حزم الأمتعة والتوجه إلى المطار فقط متى شئت! تبًا لمن أوهمونا بذلك ولم يخبرونا بأن الشوارع رغم ازدحامها خالية من الوجوه ... نعم أعتقد أنني في الغربة قد بدأت بأفكارٍ مجنونة بأنه قد أرى أي شخص أعرفه حتى لو كان رأيته يومًا في وطني بمحض الصدفة! لكن مع الأسف كان مستحيلًا ... أنا أيضًا كنت وجهي غريبًا لهم ...
المغترب لا يحقد أبدًا على البشر هناك، ولا يشير بأصابع الاتها للشوارع والمباني بذلك، الغربة ليست اختلاف شوارع ومسكن فقط، أقسم أن الغربة تبدأ من الأعماق .. جميعًا نعود أطفالًا نبكي عند غياب ذوينا.. نعم كما يبكي طفلي على غيابي بكيت بحرقة وبمرار أريد أمي .. لم أكن أحتمل قراءة جمل عن الأب وحنانه، أمسك الهاتف فورًا وما أن انتهى رنين جرس الاتصال وترددت على مسامعي "ألو" حتى أنهار بكاء دون سابق إنذار ..
في الغربة مهما فتحت أبواب في منزلك لن تجد وجهًا كان يشاطرك آلامك.. أوقاتك... سهرات ما بعد منتصف الليل .. اجتماع الإخوة .. ضجيج العائلة.. أصبح ذلك من وحي الماضي وستقف فقط على أطلاله .. قد تضطر إلى سرد هذه التفاصيل على مسامع من حولك بأسلوبٍ يفضح مدى الشوق لهذه الأيام حينما ترتسم البسمة ولمعة الدموع في عينيك واضحة!
علمتني الغربة
الغربة تجعلك تشعر بالوحدة المطلقة ... تصبح شخصًا جديدًا مضطرًا أم راضيًا، سابقًا لم أشعر أن الغربة بتلك المصيبة التي كان الكثير يشتكون منها، أما الآن فإنني أقسم لو بيدي سأذهب إلى المطار وأقنع المسافرين "عودوا .. ثمن التذكرة ليس أغلى أبدًا من ثمن الغربة.. فإنك ستدفع الثمن أضعاف مضاعفة لكن من أعماقك .. المال يعوض ولكن والله كل ما في الوطن لا يعوض .. سواء في وطني .. في وطنك! أنت في وطني غريب وأنا في وطنك غريب ستكون المشاعر مؤلمة بحد ذاتها، فإن الحنين للأشخاص والأماكن مميت.
أستذكر جيدًا في ليالي الحنين الموجعة كنت أسهر حتى ساعةٍ متأخرة أبكي عند سماع أغنية القيصر كاظم الساهر "تحية طيبة يا والدي الطيب.. الله يطول عمرك يا غالي يا حبيب" .. أما عن الفنانة العظيمة منى واصف التي أبدعت في إحدى المشاهد قائلة "انتي ما دقتي طعم الغربة قاسية ومرة متل ليالي كانون.. فيها ذل".. نعم تشبه ليالي كانون جدًا.
ختامًا... لن توفي السطور أبدًا عميق المشاعر المتأججة بالألم والحسرة على أيامٍ عشناها بعيدًا عن الوطن، إلا أن الزمن قد فرض قيوده علينا بضرورة ذلك بأن نبقى بين قاعات المغادرين والقادمين في المطار .. رغم أنه في كلتا الحالتين يتخللهما الدموع إلا أنه شتان ما بين دموع المغادرين عن القادمين .. أعان الله قلوبنا وربط عليها .. الدعوة بالصبر ليست فقط عند موت عزيز بل عند فراق وطن أيضًا .. لكن لن ندعو بسلوان الوطن ومن فيه أبدًا...
إيمان الحياري
كاتبة محتوى تقني ومنوعكاتبة محتوى إبداعي واحترافي أشغف في إثراء المحتوى العربي، هدفي إفادة الشباب العربي بالمعلومات المستوحاة من مصادرها الموثوقة وتقديمها بأبسط ما يمكن لتكون متوفرة فور البحث عنه.
تصفح صفحة الكاتب