صلاح نصر .. جاني أم مجني عليه ( ٣ ) ما قبل النهاية

تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال قصة صعود صلاح نصر و نجاحاته و إنجازاته
و في الجزء الثاني تكلمنا عن النكسة و ما صاحبها من أحداث
حتى إنتهينا بالجلطة التي أصابته في الشريان التاجي
السلطة المطلقة
و في هذا المقال سنتحدث عن ما قبل النهاية و لماذا لم يجد صلاح نصر من يتعاطف معه
صلاح نصر بإنجازاته التي لا خلاف عليها و بنائه جهاز مخابرات نفتخر بأعماله حتى الآن إلا أنه إستخدم سلطاته في عقاب و تأديب أي شخص يرفض الإنصياع لجبروت و ظلم عبد الناصر و رفاقه
و حولته السلطة المطلقة من شخص ناجح و صاحب فكر و رؤية إلى شخص مرعب إعتبر نفسه فوق المسائلة شأنه في ذلك شأن جميع زملائه
هاشم الرفاعي
على سبيل المثال الشاعر هاشم الرفاعي الذي كان شاعرا معارضا لحكم الرئيس عبد الناصر و كان يرفض أن يمنعه أحد من التعبير عن نفسه بحرية حتى أنه كتب عن الرئيس جمال عبد الناصر يقول :
جلاد مصر و يا كبير بغاتـهـا
مهلا فأيام الخلاص دواني
من أي غاب قد أتيت بشرعـة
ما إن يساس بها سوى الحيوان
وبأي قانون حكمت فلم تـدع
شيئا لطاغية مدى الأزمان
و كتب هاشم الكثير من الأشعار التي تهاجم عبد الناصر بشكل مباشر فقرر صلاح نصر في بداية رئاسته للمخابرات أن يجعل منه عبرة لمن يتطاول على الرئيس
كان هاشم في قريته و مسقط رأسه أنشاص سنة ١٩٥٩ ونشبت مشادة مفتعلة لم يكن الشاعر هاشم الرفاعي طرفا فيها لكن إقترب منه بعض الأشخاص الذين يتشاجرون معا و ضربه أحدهم بسكين في قلبه و هربوا جميعا بعد إنتهاء المهمة
نجيب سرور
الشاعر نجيب سرور فقد كان متزوجا من الفنانة سميرة محسن و كانت فنانة في بداية طريقها و يبدو أن زوجته كان يلاحقها السيد ثروت عكاشة الذي كان وزيرا للثقافة و كان نجيب سرور متمردا بطبعه و تحرش الوزير بزوجته أثار غضبه فكتب قصيدته الأشهر ،،،،،،أميات التي إنتقد فيها الوسط الفني و سيطرة الحكومة عليه و ذكر إسم وزير الثقافة ثروت عكاشة بشكل مباشر قائلا :
ثروت عكاشه ،،،،ل والعهده ع الراوي
وزير ويغلبنى طبعاً لما اكون عاطل
و ،،،،،ك مراتى وامانه تسألوا الصاوي
طب يعمل ايه الضعيف لا حق و لا باطل
مخرج .. ممثل .. مدير .. حتى الوزير ،،،،ها
إنتشرت القصيدة في كل مصر و بالطبع غضب ثروت عكاشة و هو ليس وزيرا كباقي الوزراء و لكنه أحد الضباط الأحرار فقرر صلاح نصر تأديب نجيب سرور و تم إعتقاله فترة في السجن الحربي و زادت الأقاويل على العلاقة بين ثروت عكاشة و الفنانة الشابة و إعتقال زوجها لإسكاته فأمر صلاح نصر بإيداع نجيب سرور مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية ليعرف الجميع بأن نجيب سرور مجنون و غير مسئول عن تصرفاته و استمر نجيب سرور في مستشفى العباسية حتى عهد الرئيس أنور السادات
شهادة مفيد فوزي
كان صلاح نصر هو مبتكر فكرة إستخدام مستشفى الأمراض العقلية كعقاب لبعض المتمردين و قد نال هذا الابتكار إستحسان الرئيس جمال عبد الناصر و إستخدمه ضد الكثيرين من معارضيه
إنتشار السيرة المرعبة للمخابرات أعجبت صلاح نصر و إستحسنها فقرر أن ينميها فأصبح يضع سماعات في طرقات المخابرات تشغل صوت صرخات بشرية ليظن من يسمعها أن هناك من يعذب في أحد المكاتب القريبة
و ذلك حسبما شهد الصحفي مفيد فوزي عندما زار السيد صلاح نصر في مكتبه بالمخابرات برفقة الفنان عبد الحليم حافظ و كانوا طوال الوقت يسمعون صوت صرخات متداخلة فكان مفيد فوزي في حالة رعب و يقول أنه علم بعد ذلك أنها سماعات تبث هذا الصوت لإثارة الفزع في نفوس الضيوف

الرجل الخفي
لهذا كان إسم المخابرات يثير مشاعر المواطنين و كراهيتهم و رغم أن إسم صلاح نصر لم يكن معروفا إلا لكبار رجال الدولة و المقربين من دوائر السلطة و الحكم و لم يكن المواطن العادي يعرف من هو رئيس المخابرات و حتى إذا ذكر إسم صلاح نصر في أي تقارير صحفية فكان يذكر بالقول السيد صلاح نصر دون الإشارة لمنصبه فكان البعض يعتقد أنه من الضباط الأحرار و معاوني الرئيس أو سكرتارية الرئيس فقط و لا يعلمون منصبه و حتى من يعلم أن السيد صلاح نصر هو رئيس المخابرات كان لا يجرؤ على ذكر إسمه
أحداث يوم الجلطة
نعود إلى يوم ١٣ يوليو ١٩٦٧ و الذي بدأ بأن قرأ صلاح نصر حوارا صحفيا لموشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في أحد الصحف الإنجليزية يسأله الصحفي لماذا لم تدخل القاهرة فرد موشي ديان : كانت القاهرة تفتح لي ذراعيها لكني إكتفيت بسيناء
هذا الحديث أغضبه لدرجة أنه بدأ يشعر بألم يشق صدره و لكنه تحامل و قام لإرتداء ملابسه لارتباطه بموعد مع الفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية الذي تم عزله قبل يوم واحد فشعر أنه من غير اللائق أن يعتذر عن لقائه لأن الفريق صدقي محمود سيظن أن صلاح نصر يتهرب من لقائه بعد أن عزل من منصبه
إرتدى صلاح نصر ملابسه و إتجه إلى مكتبه و في الطريق علم أن الأعداد تتزايد داخل و حول منزل المشير في شارع الطحاوي في حي الجيزة و يتوافد على البيت أقارب المشير من أسطال و الكثير من قادة الجيش
أغضبت هذه المعلومة صلاح نصر بشدة و زادت من آلام صدره
و حسبما ذكر صلاح نصر في الجزء الثالث من مذكراته أنه إستقبل الفريق صدقي محمود في مكتبه الساعة الثانية عشرة ظهراً وما إن جلسوا حتى قال له أنه علم بالأمس أن الشرطة العسكرية ستقبض عليه اليوم ولذا فضل أن يأتي إلي مكتبه ليقدم نفسه بدلاً من محاصرته في المنزل بالشرطة العسكرية و أنه قد أحضر حقيبة ملابسه في عربته قال له صلاح نصر أنه ليس مختصاً بهذا العمل و لكنه علم بهذا الكلام من الفريق محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة ونصحه أن يعود إلى منزله وينتظر به حتى يحضر له من سيقوم باعتقاله
النقاش الذي دار بينهما أحزنه جدا و زاد من همومه فأحس فجأة بأن شيئاً يشق صدره وتصبب من جسده عرق غزير وأخذ يتحامل على نفسه محاولاً ألا يشعر صدقي محمود بحالته حتى لا تأول في هذه الظروف أنها ملل أو ضيق من حديثه ولكن صدقي محمود شعر بأنه يعاني ألماً فسأله عما ألم به فأخبره أنه يشعر بألم شديد في صدره فإستأذن صدقي محمود للإنصراف وطلب منه أن يعود لمنزله لينال قسطاً من الراحة فقد تكون هذه الآلام نتيجة إرهاق متواصل
بعد مغادرة الفريق صدقي محمود مكتبه إتصل بالمشير عامر في منزله و حاول منعه من الإنصياع لشمس بدران و علي شفيق و لكنه فوجئ ان المشير عامر قد تبنى وجهة نظرهم تماما فغضب بشدة فإزدادت شدة الآلام في صدره وأحس أن أنفاسه تكاد تكتم قلبه فانهى الإتصال مع المشير عامر و إستدعى أحد أطباء المخابرات و هو الدكتور عبد المعطي القيعي الذي سرعان ما حضر وأجرى فحصه الطبي فطلب منه أن ينام على سريره الموجود بالمكتب منذ نشوب أزمة الشرق الأوسط في منتصف مايو
و طلب منه ألا يبذل أي مجهود وتركه ليعود بعد بضع دقائق وفي يده حقنة سرعان ما غرسها في جسده وكان يسير خلفه ممرض يحمل أنبوبة أكسجين للتنفسو بدأت حالته تسوء بسرعة وما هي إلا نصف الساعة أو أقل حتى رأى حوله مجموعة من كبار الأطباء و هم : الدكتور منصور فايز ( طبيب الرئيس عبد الناصر ) و الفريق الدكتور رفاعي كامل ( مدير الخدمات الطبية بالقوات المسلحة ) والدكتور ناصح أمين وانضم إليهم من أطباء المخابرات الدكتور عبد المعطي القيعي و الدكتور إبراهيم شعراوي
فشعر بأنه سيموت و صرخ في من حوله قائلا : هاتولي جمال عبد الناصر عايز أقوله على حاجات كتير
طلب منه الأطباء أن يهدأ ثم دخل في شبه غيبوبة لم يفق منها إلا في العاشرة مساء
ليجد الأطباء حوله و قد قرروا خطورة نقله إلى المستشفى فحولوا الغرفة الملحقة بمكتبه إلى مستشفى و إحتجز بها لمدة ستة أسابيع ومنع الأطباء الزيارة عنه
تلفيق التهم
من ١٣ يوليو و حتى أول سبتمبر ١٩٦٧ كان صلاح نصر محتجزا في مكتبه بالمخابرات تحت إشراف طبيب عبد الناصر و مدير الخدمات الطبية بالقوات المسلحة
و مع ذلك تم ذكر إسمه في قضية مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر أنه أعطى عباس رضوان أسلحة و ذهب
لإستخدامهم ضد الرئيس عبد الناصر و أن واقعة تسليم الذهب و السلاح كانت في أغسطس علما بأن شهر أغسطس بالكامل كان صلاح نصر يخضع للعلاج و ممنوع من الزيارة و الأطباء سالفي الذكر لم يتركونه لحظة واحدة و منهم أطباء الرئيس عبد الناصر شخصيا و الذين ذهبوا بناء على تعليماته
قرر الرئيس جمال عبد الناصر التخلص من السيد صلاح نصر الذي كان يعلم أنه صديق مخلص لعبد الحكيم عامر و قرر أن يحمله خطايا نظام حكمه بالكامل و هو يعلم أن السمعة السيئة التي يحظى بها جهاز المخابرات داخل مصر ستساعده بالإضافة إلى أن جميع الإنجازات الخارجية لجهاز المخابرات كانت سرية و غير معلنة و لا يعلم الشعب عنها شيئا
لهذا كان السيد صلاح نصر نموذجا مثاليا سيقبل الشعب بتحميله كل خطايا العصر الناصري و سيكون مادة خام للكثير من الشائعات التي ستلهي الرأي العام و تشغله عن محاسبة الرئيس الذي تسبب بشكل مباشر في النكسة
و سنكمل الباقي في الجزء الأخير إن شاء الله
المصادر
:١ - مذكرات صلاح نصر- المجلد الثالث - ص١١٨
٢ - عامر و برلنتي ..الحكاية .. القضية .. الحكم .. الوثائق - عبد الله إمام - ص١٦٢
٣ - إنقلاب الأصدقاء .. عبد الناصر و المشير عامر .. مبارك و أبو غزالة .. جمعتهم الدفعة و فرقتهم السلطة - حمادة إمام
٤ - الفريق الشاذلي - العسكري الأبيض - مصطفى عبيد - ص٨٥
٥ - الهوية و السيادة - أستراتيجيات الأمن القومي العربي - دكتور صلاح شعير - ص٢٦٠
٦ - على سور الأزبكية .. كانت لنا أيام - أشرف مصطفى توفيق - ص٦٩
٧ - شهادتي للأجيال - مذكرات المهندس حلمي السعيد عضو الضباط الأحرار- ص ١٠١
٨ - الديمقراطية و نظام ٢٣ يوليو - المستشار طارق البشري - ص٣٤٨
٩ - الجزء الأول من المقال
https://nathre.com/%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%AC%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%AC%D9%86%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D9%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9
١٠ - الجزء الثاني من المقال
https://nathre.com/%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%AC%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%AC%D9%86%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D9%A2-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%B1%D8%AB%D8%A9