دراسة في رواية...بريق في عيون الجياع...للرواىي عبد الرحيم درويش

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
منظومة الصراعات..وظلال السيرة الذاتية في رواية "بريق في عيون الجياع" للدكتور عبد الرحيم درويش.
ماذا ينبغي على الأديب أن يفعل وهو بصدد كتابة رواية جديدة؟
هذا سؤال هام جداً لكل من تعرض لكتابة الرواية... لأن إجابته تختصر الطريقة المثلى لكتابة الرواية الناجحة...أعتقد أن هناك ثمة فكرة تلح على الكاتب يود أن يعبر عنها من خلال سطور روايته .. ثم يأتي بعد ذلك التكنيك, ثم اللغة التي ينفذ بها هذا التكنيك.. ثم تأتي الشخصيات التي يسوقها الكاتب من أجل بث الروح والحياة للرواية , ثم الأحداث والصراعات ...إلخ.... أعتقد أن كل هذا أو كثيراً منه يجب أن يكون واضحاً وحاضراً في ذهن الكاتب قبل أن يمسك بقلمه ويشرع في كتابة روايته, لأن الرواية- من وجهة نظري- هي بناء هندسي وأدبي يجد الكاتب مشقة وعناءاً كبيرا من أجل انجازه بالشكل الذي يرمي إليه ويرسمه في مخيلته.
رأيت هذا بوضوح وأنا أطالع رواية "بريق في عيون الجياع" للأديب دكتور عبد الرحيم درويش وكيل كلية الإعلام جامعة بني سويف...هذه ليست الرواية الأولى للكاتب, بل سبقتها العديد من الروايات التي فاز الكثير منها بجوائز أدبية رفيعة..نحن إذن أمام كاتب متمرس يمتلك الخبرة وكذلك كل الأدوات التي تمكنة من كتابة رواية ناجحة, لذا كان الولوج إلى الرواية والطواف في أحداثها والإنصات إلى شخصياتها أمراً له محاذيره لأننا كما قلت أمام كاتب عليم بفن الرواية وله باعٌ طويل وتاريخ مميز في كتابتها والإبداع فيها...بداية من العنوان الذي اختاره الكاتب "بريق في عيون الجياع" هذا العنوان المخادع والذي لم يأت به الكاتب بشكل مباشر, بل اختاره ليحدث مجموعة من الإسقاطات والرموز على الكثير من الشخصيات في روايته.. الجوع هنا ليس بالمعنى المفهوم والمباشر والمضاد للشبع بل هو جوع من نوع خاص... جوع السلطة.. جوع الثروة.. جوع الجنس..جوع الشهرة وجوع العلم والأخلاق... أظنه كان موفقاً إلى حدٍ كبير في اختياره.
الشخصيات التي اختارها عبد الرحيم درويش لبناء روايته جاءت كلها لتحقق الفكرة التي من أجلها كُتبت هذه الرواية.. رسم عبد الرحيم شخصياته ووضعها كلها في بوتقة واحدة ليحتدم الصراع بينها بالشكل الذي ارتآه وارتاح إليه...جاء الصراع بين شخصيات الرواية في شكل منظومة هندسية متكاملة وترك قارئه يتفاعل معها وينظر إليها من الزاوية التي تروق له... دكتور حسن صبري المدرس المساعد بكلية الإعلام بإحدى الجامعات الإقليمية..ذاك الشاب العشريني الذي جاء إلى تلك المدينة الساحلية محملاً بالعديد والعديد من الثوابت الدينية والأخلاقية والتي لم يحدْ عنها أو يتزحزح قيد أُنملة من أول الرواية إلى نهايتها... كانت تنشأته الدينية الصارمة التي وعيها وأثرت فيه منذ نعومة أظافره هي عجلة القيادة التي توجه وتتحكم في كل أفعاله وقراراته داخل صفحات الرواية...هذا الشاب الذي يقدس العلم ويحارب من أجل تحقيق حلمه وحلم أبويه ليصبح أستاذاً في الجامعة...تلك الشخصية التي تلقي بظلالها على الكاتب نفسه كنوع من السيرة الذاتية والتي أظن أن جميع كتاب الرواية ألقوا بدلوهم بشكلٍ أو بآخر وكتبوا عن ذواتهم..هذا مباح وموجود في كتابات الكثير من الروائيين...كان الصراع محتدماً وعاصفاً بين شخصية دكتور حسن وباقي شخصيات الرواية...اصطدم بشخصية غادة موسى نسر في الصفحات الأولى من روايته, تلك الطالبة المتمردة والوصولية والتي كانت مستعدة دائما لتسلق أي شيئ من أجل أن تصل إلى هدفها وهو أن تكون نائبة بالبرلمان.. هي تضحي بالغالي والنفيس من أجل أن تحقق مرادها وإن كلفها هذا أن تفقد عذريتها مع معلمها وغيره من أجل الجلوس تحت قبة البرلمان....أميرة مصطفى خطيبة الدكتور حسن والتي اختارتها له أمه دونما رغبة منه أو إرادة...هو لا يحبها ولا يشعر تجاهها بأية عاطفة... قتل حبها له بهذا الجمود العاطفي والتزمت معها, وهي التي حاولت مراراً وتكراراً معه لتكسر حائط الجليد بينهما لكنها فشلت وفضلت عليه صديقه "السباك" مجدي الذي يمتلك شقة ومالاً وفيرا والذي دأب أن يسمعها كل عبارات الحب والهيام....دكتورة كوثر النجار رئيسة القسم في الكلية... لا تتخلص من سعارها الجنسي ومن أول مشاهد الرواية تفصح عنه وتداعب الدكتور حسن أمام الطلبة, ثم تنجح في استدراجه إلى غرفة نومها, لولا تمسكه بموروثه الديني لكان من النادمين, لقد أصر على الزواج منها حتى لا يغضب الله ورسوله...ثم يأتي الطلاق كنتيجة حتمية عندما يتقاطع ويتانفر المخزون الثقافي والفكري بين الشخصيتين ... السيد دعدور عضو البرلمان والذي يمثل القبح بكل صوره والذي كان ولابد أن تتوافق شخصيته مع غادة نسر والتي تزوجته من أجل أن يكون سلماً للوصول منه إلى البرلمان والذي يلقى حتفه إبان أحداث ثورة يناير...ثم تأتي شخصية موسى نسر هذا الشره للجنس وللطعام والذي تفشل زوجته في ترويضه, بل وتكلف من يراقبه وهو يرتمي في أحضان الغواني والمومسات في الشقق المشبوهة...الأستاذ جاد المعلم الذي تعلمت منه غادة كل أصول اللعبة..ذاك القواد الانتهازي الذي رسم لها الطريق وانتظرها في نهايته والذي داس كل القيم والمبادئ من أجل تحقيق أغراضه الدنيئة.
كل الشخصيات انصهرت جميعها في بوتقة واحدة, واحتدم الصراع بينها... كل الشخصيات جاءت في النهاية خاسرة...إلا الدكتور حسن صبري.. انتصر حينما تمسك بمبادئه وأخلاقياته والمشروع الذي كان يسعى لتحقيقه... تزوج من أمريكية وأصبح رئيساً للقسم في الكلية...كل من ناوأه العداء سقط, وكل من سخر منه ومن تمسكه بحلمه تردى إلى الهاوية...
التكنيك الذي استعمله الدكتور عبد الرحيم درويش في روايته..هو الشكل التقليدي في الكتابة, من حيث رسم الشخصيات والإسقاطات وأسلوب السرد واللغة الطائعة التي شكل منها كل أحداث وشخصيات روايته...لكن ما يعيب عليه التكرار والترهل الزائد في كثير من الحوارات والسرد الذي كان يأتي أحياناً فقط لمجرد السرد دونما إضافة أو سبب مقنع...كذلك كان من الممكن أن لا يلجأ الكاتب إلى إعادة الشخصيات من جديد كلٌ على حدة في الجزء الثاني من الرواية...كنت أرى أن تتداخل الشخصيات وتمتزج مع بعضها البعض, وألا يكون الشكل هكذا مثل نشرة الأخبار... يقدم المذيع الخبر ثم يعود للتفاصيل من جديد.
الهاجس السياسي واضح وبقوة من خلال الفترة التي اختارها الكاتب لروايته..العقد الأخير من حكم مبارك مروراً باحداث يناير ثم حكم الإخوان ومنتهياً بتولي الرئيس السيسي مقاليد الحكم في البلاد.. الكاتب لم يتبنى أيدلوجية بعينها, هو على مسافة واحدة من كل القوى السياسية, ولم يكن التنكيل به والزج به ولو لفترة قصيرة للسجن نتاج فكرٌ سياسي بعينه ولكن فقط لأنه متمسك بمجموعة من القيم والرسائل لا يمكن أن يحيد عنها.
في نهاية الرواية.. كانت رسالة الدكتور عبد الرحيم درويش واضحة لا لبس فيها أو غموض... انطفأ كل بريق يلمع في عيون الجياع للسطلة أو المال أو الجنس أو الشهرة... وبقى بريق واحد مازال يلمع وبقوة وهو الجوع الحقيقي للعلم والأخلاق والمثل العليا.
رضا محروس
كاتب وروائي من مصر


رضا محروس
كاتب و روائي من مصركاتب قصة قصيرة ورواية ...نشرت خمس مجموعات قصصية ولي روايتان قيد النشر ....نشرت معظم أعمالي الأدبية في الدوريات المصرية والعربية وكان لها صدى إيجابي. حاصل على ليسانس الآداب في اللفة الانجليزية .. اعمل مدرساً للغة الإنجليزية في التعليم الثانوي العام أقيم في حي المعادي بالقاهرة
تصفح صفحة الكاتب