حوارٌ بين الأرض والقمر

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولفي إحدي الليالي أطل القمر بوجهِه كعادته علي القسم الخاص بنا من الكوكب بعدما سلَّمت الشمس المناوبة له ، وفي تلك الليلة كانت المناوبة مملة بشكلٍ غريب للقمر .. لم يكن يتسنّي للقمر قطُّ أن يحدِّث الأرض ، وهذا لأن وجه الأرض كان أشبه بعبّاد الشمس ، فحيث كانت الشمس فالضوءُ والنهار والعمل ووجه الأرض ، بينما القمر فالظلامُ والليل والنوم .. لم يكن يشعر القمر بالملل أبداً لأنه اعتاد علي عدم وجود أنيس يؤنس وحدته ، بل إنه كان يري أن وقت مناوبته هو الأفضل معزِّياً نفسه بأنه ليس مضطراً لرؤية هذه الأعداد الضخمة من البشر كما في مناوبة الشمس ، وحتي لو اضطرّ لرؤية بعض جرائم البشر التي كانت تحدث في جنح الظلام فإنه لازال مقتنعاً أن جرائم النهار وبشاعته أكبر طالما كثُر عدد البشر ..

الأرضُ تُحاور القمر ..
" أناوب منذ ملايين السنين ولم أشعر بهذا الملل من قبل " قال القمر متأفَّفاً ، فجاء صوتٌ إلى مسامع القمر : علي الأقل لم يُمْحَشْ (يحترق) سطحُك ، إن كان من متأفِّفٍ هنا فيجب أن يكون أنا لا أنت !
أمعن القمر النظر فإذ بالأرض تحادثه .. بدت الفُجاءة علي أديم القمر فهو لم يطارح الأرض من قبل ، لكنّه لطالما تمني أن تطارحه ، كان القمر يشعر تجاه الأرض بأنها تلك الحبيبة التي تجهل وجود حبيبها بقربها تماماً ، فقد كانت الأرض أمام ناظريْه طوال الوقت لكنه أحرَزَ ومنذ زمن كونها صعبة المنال فهو في النهاية ليس سوي تابع ..
" ما بالك يا رفيق ؟! هل أكل الثقب الأسود لسانك ؟ " وجَّهت الأرض السؤال للقمر ، ارتبك القمر لكنه سرعان ما اصطاد الكلمات من بحر التيه في عقله وأجاب :
أنا فقط مستغربٌ من أنَّكِ موجودة هنا ، يفترض أن تكوني مع الشمس حيث الضوء .
فأجابت : ألم أخبرك أن هناك جزءاً من سطحي يحترق ؟!
إن هذا الجزء هو الجزء الذي تناوب عليه الآن ، ووجهي سيظلُّ موجّهاً تجاه هذا الجزء إلي أن يتكرَّم عليَّ البشر ويخمدوا هذا الحريق وحتي ذلك الوقت فإنّي سأري الشمس فقط في وقت مناوبتها هنا ، ويبدو أنه لا مجال للحديث إلَّا معك .. أعني قد لا تكون نجماً أو كوكباً أو حتي كويكب ولكني لا أنوي أن أمضي وقتي صامتة أنتظر مجيء الشمس ، لذا أنا مضطرة لتضييع وقتي معك حتي وقت مغادرتك ومجيء صديقتي .
أثارت كلمات الأرض شعور القمر بالضِّعَة والإهانة فلطالما كان بالنسبة لهذا الكون الفسيح مجرد جسم معتم ، فحتي جماله المتمثّل في ضوءه فإنه مستمَد من كبيرة مجموعتهم ' الشمس ' .
سأل القمرُ الأرض : أخبرتني عن حريق علي سطحك فما القصة ؟
أجابت الأرض : ومن سيُضرم النيران فيَّا سوي البشر؟ من القادر علي إيلامي مُذ نزلوا بي سواهم ؟
صمتت الأرض قليلاً ثم أكملت متسائلة : لما السؤال ووجهك موجه نحو سطحي في كلَّ ليلة من ليالي من يقطنون بهذا الجزء مني ؟ ألا تستطيع أن تري النيران والدخان وكل هذا الدمار ؟
فأجاب القمر : في الواقع أنا لا أنظر نحو سطحكِ منذ زمن ، ويطل وجهي علي سكّانه ولكن بصري أغضُّه ، وقبل أن تسألي فإن هذا قرارٌ اتخذته منذ زمن .. في الماضي وقبل أن يكون هناك البشر كنت أتمتّع بالنظر إلي جمال سطحك وتعقيد تركيبه ، فبينما لا يوجد علي سطحي سوي التراب والغبار فإنّني كنت أري عزائي في جمالك ، وبعدها نزل البشر بكِ ولأكون منصفاً رأيت منهم الجيد والسيء ، رأيت سلمهم وحربهم، رأيت موتهم وحياتهم و ظلامهم ونورهم ، ولكن بعد كل فترة سلمٍ وبعد كل فترة حياة كان يجب أن تأتي الحرب ، كان يجبُ أن يقتلوا بعضهم بعضا .. لم أتحمّل واتخذت قراري بعَدَمِ الإطلاع علي حياتهم ، ولا أُخفي أنني كنت أسترقُ النظر أحياناً في لحظاتهم الجميلة ..لحظات الميلاد ولحظات الحب ولحظات الأمل وحتماً لحظات السلام .
تنهَّد القمر ثم أكمل قائلا : لكنّني سرعان ما أُزيحُ بصري مرة أخرى لحظة إفسادهم لكلّ هذا ..
معكِ حق قد لا أكون نجمتاً أو كوكباً أو حتي كويكباً لكنّ سطحي لم يتلوَّث بقوانين سكانكِ الفاسدة ، ولم يتلوث بمبادِئهم المتغيرة حسب المصالح وحسب الأهواء ، لم يتشرب سطحي دماءهم وإن كنت مقتنعاً أن دماء أبريائهم طاهرة ، لم أحمل في جوفي جثثهم .. أنا إن كان لي أن أُفاخر بشيء ما أمامك فسأفخر بنظافة سطحي وطهارته ، وفي الواقع ما من شيء لأحسدكِ عليه إطلاقاً .
نظرت الأرض إلي القمر في تعجب وكأن تعجبها لم يكن مما قاله تحديدا ولكن مما ترتب عليه ، فقد شعرت بأن شيئا ما انكسر.. لقد كان كبريائها.
صمتت الأرض ... وصمت القمر .. وعمَّّ السكون كافة أرجاء المجرة ، كأنّما كانت تُهيّأ لأمرٍ عظيم ..

Batool Khalil
مُحبَّة للمعرفةأغوص في بحر المعرفة لأبحث لكم عن جميل الفِكَر ، لأكتب مادةً دسمة تكون إضافةً جديدةً ، وفكرةً بديعةً تُثرَي بها عقولكم وتفتح أمامكم باباً لشيء جديدٍ كان مجهولاً .
تصفح صفحة الكاتب