"بين دفء الشاي وبرودة المنفى.. نكتب حكايتنا"

في أعماق صباحات الغربة الباكرة، حيث يخيم صمت المكتب المهجور قبل وصول الزملاء، أنحت لنفسي مساحةً من الهدوء أستعيد فيها أنفاسي. أبدأ طقوسي اليومية بفنجان شاي أخضر يُذكّرني بأصيل النيل، ووجبة إفطار بسيطة أحملها كتعويذةٍ من الذكريات. في هذه اللحظات، تمتد يدي هاتفةً صديقةَ الروح في المنفى، ابنة أختي "إيثار"، لنتبادل همسات المغتربين.
الحرب التي حوّلت الشوق إلى جرح
لم تعد الغربة مجرد ابتعادٍ جغرافي، بل صارت فجوةً أوسعَ من المحيط بعد أن مزّقت الحرب أواصر القرب بيننا وبين السودان. كفتياتٍ اضطررنا لخوض معركة الاستقلال في عالمٍ قاسٍ، نحمِلُ في قلوبنا جمرة الحنين إلى وطنٍ لم يعد يعرف إلا لغة المعاناة. هنا، حيث تنهمر دموعنا خفيةً خلف شاشات الهاتف، نستعيد ذكريات الدفء الأسري الذي صار أسطورةً نرويها لأنفسنا.
"موسم الهجرة إلى الشمال": مرآةُ أشواقنا
في إحدى هذه الصباحات، انتقيتُ مقاطعَ من روائع الطيب صالح، كأنما أبحث في كلماته عن تفسيرٍ لألمنا. قرأتُ عليها الوصفَ الذي يُجسّدُ حيرتنا:
عدت إلى أهلى يا سادتي بعد غيبة ِطويلةِ سبعةَ أعوامِ على وجه التحديد، كنت خلالهَا أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثيرَ وغاب عنى الكثيرُ لكن تلك قصةً أُخرى. المُهم إننى عُدت وبي شوقُ عظيمُ إلى أهلى في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل سبعةَ أعوام وأنا أحِنُ إليهم وأحلُمُ بِهِم، ولما جئتَهُم كانت لحظةً عجيبةً أن وجدتني حقيقةً قائما بينَهُم فرحوا بي وضحوا حولى ولم يمض وقتُ طويلُ حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفءُ الحياةِ في العشيرة فقدته زماناً في بلاد "تموت من البردِ حياتَهَا". تعودت َأُذُناي أصواتهُُم وألِفت عيناي أشكالُهُم من كثَرةِ ما فكرتُ فيِهِم في الغِيبة. قام بيني وبينَهُم شئ ُمثل الضباب، أولُ وهلةِ رأيتُُهم لكنَ الضبابَ راح
الغربةُ: موسمٌ لا ينتهي
نحن جيلٌ يحملُ أعباءَ الحنين والمسؤولية معاً. كلُّ فنجان شاي، كلُّ ضحكةٍ مكتومة عبر الفيديو، كلُّ كلمةٍ في رواية الطيب صالح – هي محاولاتٌ يائسة لسدّ شرخِ البُعد. لكننا نعلمُ في العمق أن العودةَ لن تعيدَ لنا السودانَ الذي تركناه، بل ستدفعنا لخوض موسمٍ جديدٍ من الهجرة، هذه المرة داخل أوطاننا المُنهكة.
الطيب صالح

السيده حسين الجزولي
كاتبة/ باحثةتأثراً بأبي و هو معلمي الأول الذي أسّس لغتى العربية ، فصاحتي و معرفتي ، صرت منذ الصغر أكتب و أُسمع الجميع صوتي بكلماتي التى ساعدتني كثيراً لأكون من أنا.