الماضي الغامض ( الجزء الأول )

Abdallah Othman
كاتب و محرر
آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
لا توجد تعليقات

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق

تسجيل الدخول

ذكريات متضاربة

كان عصام يعيش مع والده في منزل بسيط في الغابة بعيداً عن المدينة , و هرباً من بطش الحرب التي دمّرت الحجر و البشر فيها , كانت المناظر الخلابة تحيط بالمنزل من كل نحبٍ و صوب , يستيقظ عصام ذات يومٍِ من النوم و يخرج من غرفته , و على أصوات العصافير المزقزقة تستقبله الطبيعة كلّما فتح باب المنزل , يقف أمام كومة الأعشاب التي وعد والده بالتخلص منها و يقول بينه و بين نفسه :

حسناً , ياله من يوم جميل , سأنهي مهامي بسرعة لأستمتع بالاسترخاء في هذا الطقس الجميل .

يبدأ عصام بالعمل و هو يتمتم بعض الأغاني , إن عصام شاب له من إسمه نصيب , فهو مسؤول و فطن, يعطي العمل حقه , و يتحمل مسؤولياته بقدرٍ عالٍ من الالتزام , و يساعد والده كثيراً, و هو في واقع الأمر يشعر بالامتنان لوالده , الذي اعتنى به بعد إصابته بسبب الحرب في طفولته و تلقيه صدمة على الرأس جعلته يفقد الذاكرة , و رغم أن جزءً كبيراً من ذاكرته عاد إليه تدريجياً , لكنّ القسم الأكبر من حياته في الماضي ظلّ مجهولاً و مبهماً بالنسبة له .

على كلِّ حال , كان عصام بين الحين و الآخر يستحضر ذكرياتٍِ غريبة , و كان في بعض الأوقات يجد في الواقع ما يدعم هذه الذكريات , و هنا تبدأ رحلة عصام الشيقة و نزاعه الداخلي بين الواقع والخيال

الماضي الغامض ( الجزء الأول )

لغزٌُ بين الأعشاب

كان عصام يتذكّر أحداثاً غريبة , و أناساً ليس لهم وجود , فقد كان يتذكر أختاً صغيرة له , تدعى دينا , و كان يتذكر والدته المتوفاة تلعب معها كثيراً من المرّات , و في حين كانت صورة والدته في غرفة المعيشة دليلاً حاضراً على أن تلك السيدة في ذاكرته هي والدته , لم يكن هنالك أيّة صورة لفتاة صغيرة , و كان والده مصرّاً على أن ذاكرته مخطئة , و أنّ الأمور تتهيّأ له بسبب الصدمة التي تلقّاها على رأسه ,و لم تكن لديه أختٌُ قط .

في خيالاته و ذكرياته , كانت دينا ترتدي فستانا بنياً مقطّعاً بخطوط صفراء , و كانت تجدل شعرها الأشقر في ضفيرتين جميلتين , و تحيط عنقها قلادة ذهبية على شكل فراشة .

و الآن نعود إلى اليوم الجميل , الذي بدأ عاديّاً مثله مثل أيّ يوم , و لكنّه سرعان ما تحوّل إلى يوم غير عاديّ عندما أنهى عصام إزالة الأعشاب , و تكشّفت الأرض حينها عن قطعة قماشية مغطّاة بالتراب , و قبل أن يرميها عصام لاحظ شيئاً غريباً , فالنقشة الموجودة على القماشة هي نفس النقشة التي كانت تتهيأ له عن فستان أخته الخيالية .

كانت تلك اللحظة صادمة بالنسبة لعصام , و بدأت تتجلّى أمامه ذكريات جديدة , أو ربّما تخيّلات , بدأ يتذكّر حديقة ألعابٍ في المدينة , و أرجوحة إلى جانب شجرة حورٍ كبيرة , و دينا الصغيرة تلعب على الأرجوحة و عصام يدفعها و صوت ضحكهما يملأ الحديقة .

كانت تلك اللحظة بالنسبة له هي الشيء الوحيد الذي استطاع عصام أن يرسمه في ذاكرته عن حياته قبل الهرب من المدينة , كلّ ما استطاع أن يفكّر به حينها كان مواجهة والده عند عودته من رحلة الصيد بتلك القماشة , جلس على الكرسي الخشبي أمام باب المنزل ممسكاً بيده قطهة القماش , أو ربّما القطعة المفقودة من لغزٍ كبير .

الماضي الغامض ( الجزء الأول )

حرب العشيرتين

ريثما يحين وقت عودة والده , جلس عصام يتذكّر اليوم الذي استيقظ فيه فاقداً للذاكرة , لقد كان مستلقياً على السرير في الغرفة الداخلية , و كان والده يجلس بجانبه و هو ينتظره , خيّل إليه يومها أنّ والده كان يعرف مسبقاً أنّه سيستيقظ في هذا التوقيت , في تلك اللّيلة لم يتعرّف عصام على والده , و لم يعرف المنزل , و لم يكن يتذكّر اسمه , و رويداً رويداً بدأ والده يروي له طفولته و يحاول إنعاش ذاكرته عن حياته السابقة التي لم يذكر منها شيء , سوى بعض اللحظات لوالدته و اخته الخيالية , ومن المثير للاستغراب أنّه لم يستطع أن يتذكّر عن والده سوى القليل .

و كان والده يروي له قصصاً عن الحرب التي دارت رحاها بين العشيرتين الّتين سكنتا مدينتهم السابقة , و ذلك بسبب افتقار الجزء الجنوبي للمدينة و الّذي كانت تقطنه عشيرة النار للموارد المائية , و احتكار عشيرة الضباب لهذه الموارد دون مشاركتها مع جارتها , الأمر الّذي أدّى إلى حربٍ طاحنة بين العشيرتين , حربٌُ على الموارد المائيّة أدّت إلى تهجير الكثير من السكّان , و كان عصام و والده من هؤلاء الذّين اضطرّوا للهرب , خاصة بعدما أصابت قذيفةٌُ منزلهم , مما تسبّب بوفاة والدته , و إصابة عصام بصدمةٍ بليغةٍ على الرأس أدخلته في غيبوبة , استيقظ منها ليجد نفسه في منزلٍ آمن , في مكانٍ بعيدٍ وسط الغابة.

على أيّة حال , لم يكن يذكر عصام شيئاً من هذا , و لطالما شعر بهذه النعمة , من يرغب بأن يحتفظ بذكرياتٍ مؤلمةٍ عن الحرب و الفقدان , لعلّ الأيام تساعده أن يصنع ذكرياتٍ جميلة يحملها معه متاعاً و زاداً له في رحلة الحياة .

الماضي الغامض ( الجزء الأول )

والد عصام

كان والد عصام رجلاً ضخم الجثة , طويلاً و عريض المنكبين , و كان له شارب طويل , و رغم مظهره الذي يعطيه طابعاً قاسياً , إلى أنه كان حنوناً جدّاً , و هو الآن عائلة عصام الوحيدة , والده و أخوه و صديقه , يستيقظ كلّ يومٍ في الصباح الباكر , و يخرج للصيد , و لا يعود إلّا في وقتٍ متأخّرٍ من النهار .

كانت حياته روتينيّةً بشكلٍ ممل , لا يضفي عليها الروح إلّا الوقت الذي يقضيه مساءاً مع عصام , فبعد تناول الطعام غالباً ما يجلسان سويّةً و يحتسيان الشاي , و يمارسان بعض الألعاب كالشطرنج و أوراق اللّعب و غيرها , يتبادلان الأحاديث , و يروي لعصام قصصاّ عن طفولته , و دائماً ما يعبّر عن أسفه الشديد لفقدان عصام ذاكرته , و أنّه كان من الأوائل في مدرسته عندما كانوا في المدينة , و قد خاطر بحياته عدّة مرّات في الذهاب للمدينة لشراء الكتب , التي كان يخصّص وقتاً لقراءتها كلّ مساء مع عصام , و كلّما انتهيا من كتاب جلسا يتبادلان الآراء و يتناقشان في محتواه .

عاد في توقيته المعتاد من الصيد في تلك الليلة , ليجد عصام في انتظاره , مرتبكاً حائراً , يحمل في يده قطعة قماشية , و يحمل في رأسه ألف سؤال .

يتبع...

اقرأ ايضاّ