الليلة الغير المتوقعة: " حان دورك لتفرشي مكان نومنا أختي"

آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق

كانت لدي أخت اسمها خديجة، ، كبيرة علي بسنوات، ولكن قريبة إلي بروحها. كنا نرافق بعضنا في كل مكان، حتى في العمل، حيث كنا نعمل معا. كانت ترافقني أيضا إلى المسجد في يوم الجمعة، حيث كانت ملتزمة بشكل مستمر في صلاتها وصيامها. تأثرت بها وبعالمها الروحاني، وتعلمت منها الكثير.

لك شوق أختيلك شوق أختي

كانت تعطيني الدفء والراحة، حتى في الليل، حيث كنا ننام بجانب بعضنا. كنا نتفق على أن تأخذ كل واحدة دورها في أن تفرش مكان النوم. لكن ذات يوم، غابت ولم تفي بوعدها. ليس لأنها لا ترغب في ذلك أو أنها تمردت، إنما لأنها توفيت، تاركة لي فراغا كبيرا في قلبي.

بكيت ليلتها و بشدة، لأني لم أصدق قصة وفاتها. قلت لها وأنا أعاتبها: "يا حسرتاه عليك، تركتني أفرش في دورك هذه المرة". كان ذلك الليل ليلة صعبة علي، لكنه كان أيضا ليلة تعلمت فيها قيمة الحب والود الذي كنت أحظى به من أختي خديجة.

هذه سنة الحياة دمعة وابتسامةهذه سنة الحياة دمعة وابتسامة

ربما سأكتب هذا المقال بلغة الدموع، كرسالة لشخص انتظرته لكنه لم يأتي. إنها كلمات حب وتعبير عن مدى تأثري بأخلاقها العظيمة والتي كانت انعكاسًا للعلاقة الجميلة بينها وبين الله سبحانه وتعالى، ممزوجة بكلمات عتاب والتي هي بسبب غيابها المفاجئ عني.

كانت تعيش حياتها بروح الإيمان والتقوى، تشفق على الفقراء وتساعدهم، وتبتسم في وجه الآخرين بكل صدق. كانت تحرص على أن تصلي في الوقت، وتصوم كل إثنين وخميس في الأسبوع. كانت نموذجًا للنساء العفيفات التقيات، إلى جانب أنها تملك صديقة مثلها اسمها " عائشة"، والتي كانتا تحملان قيمًا عالية من الأخلاق والدين.

كنت ما زلت صغيرة، لكنني كنت أحضر لحواراتهن ونقاشاتهن، والتي كانت دائمًا محفزة ومثيرة. كانت مواضيع الحديث دائمًا عن ما يقوله ديننا عن قضايا الحياة، إلى جانب مزاحهن اللطيف والذي يتخلله كلمات الاحترام والأدب. إنها ذكريات لا أستطيع نسيانها، وآمل أن يقرأ هذا المقال من يود أن يدعو لها بالرحمة والرضوان وجنة الفردوس الأعلى.

والشيء الذي لم أستطيع أن أنساه هو الطريقة التي كانت أختي خديجة رحمها الله تعالى تتصرف بها عندما كانت تتحدث مع أمي وأبي. كانت تتميز بالحكمة والاحترام في التعامل معهم، حتى في الأوقات التي كانت أمي تخصمها وتصرخ عليها. في هذه اللحظات، كانت خديجة تسكت لدقائق ثم تجيب بكل هدوء "جزاك الله خيرا على النصيحة أمي". كانت هذه الجملة تخرج من فمها حتى وهي تبكي، دون أن تختار طريقة الجدال مع أمي. كانت هذه الطريقة في التعامل مع الآخرين تعكس شخصيتها الحكيمة والمتعلمة، والتي كانت دائمًا مصدر إلهام لي.

كأنها لم تنسى من ربتهاكأنها لم تنسى من ربتها

كانت أختي خديجة رائدة في بلدتنا، حيث كانت أول فتاة تشتغل في محل الخضار لأبي. نظرًا لعدم وجود ولد في الأسرة، قرر أبي تعليمها لتكون التاجرة الجديدة في البلدة. وافقت خديجة على هذه المغامرة الجديدة، والتي كانت تحمل تحديات كثيرة. ومع ذلك، استطاعت أن تشق لنفسها مكانًا في عالم التسويق والتعامل مع الزبناء بفضل مهاراتها ومثابرتها.

أختي خديجة في " محل العمل"أختي خديجة في " محل العمل"

التزمت أختي خديجة بخطة ادخار مسؤولة، مما ساعد أبي على شراء حافلة نقل البضائع كبيرة الحجم. ومع ذلك، انتشرت في البلدة بعض الشائعات حولها، حيث كان البعض يجد صعوبة في قبول أن تكون فتاة تشتغل في مجال التجارة. سميت خديجة ب "رجل ابن فلان"، بدلاً من الاحتفاظ باسمها. ومع ذلك، لم تكن هذه الشائعات تؤثر على خديجة، التي كانت تتعامل مع مختلف الرجال بكل احترام ولباقة، مع الحفاظ على شروط دينها وأخلاقه الشرعية.

كانت أختي خديجة محبوبة من الكثير من الناس، خاصة الفقراء، الذين كانت تتعامل معهم بالرحمة واللطف. كانت تحرص على العمل لساعات طويلة وبذل الكثير من المجهود لمساعدة أبي وتلبية احتياجاتنا. كانت تشتري ملابس العيد لنا ولأخواتي، وتحرص على أن تملك أمي كل ما تطمح في امتلاكه، مما كان كل ذلك انعاكاسا لروحها الكريمة والمحبة.

مرت الأيام والشهور، وأختي خديجة تلقت عرض الزواج وأصبحت مستعدة لترك بيت أبيها. لكن وقعت أشياء غريبة لم أجد لها تفسير إلى يومنا هذا. في ليلة من الليالي، ذهبت خديجة إلى سطح المنزل لتنشر الملابس، وعندما نزلت من الدرج، قامت وأسرعت إلينا ونحن في أسفل المنزل، لتقول لنا بهذه العبارة: "لقد رأيت السماء تفتح على مصراعيها". كانت في حالة من الدهشة والصدمة والإحساس بأنها تستطيع أن تتجاوز الأرض وتطير بجناحيها.

لكن ردة فعل عائلتي كانت قاسية نوعا ما. بدلا من أن يأخذوا بيدها ليفهموا ما الذي وقع بالضبط وما سبب اندهاشها حقا، بدأوا بالقول: "هل أنت مجنونة؟ إياك أن تقولي لأحدهم مثل هذه الأشياء، فزمن المعجزات قد انتهى". استقبلت صدمة جديدة، وكلما ذهبت لتعيد نفس القصة لإحداهن، قالت لها: "أنت مجنونة".

صعب شعور أن لا يصدقك من تحبصعب شعور أن لا يصدقك من تحب

في نفس الفترة، كانت تتحدث معنا اللغة العربية الفصيحة، ولأننا أمازيغ، لم تتحدث لغتنا أبدا منذ الفترة التي نزلت فيها من الدرج. كنت ما زلت صغيرة ولم أنضج بعد، لكنني أتذكر جيدا ما وقع. ذهبت عندها للمحل، فبدأت تتحدث بالعربية الفصيحة مع زبنائها، فاندهشوا وهنا عمقوا لها من كلمة "أصبحت مجنونة". بدأت تحدثهم عن أن يشتغلوا ولا يضيعوا أوقاتهم أبدا.

أتيت إليها وقلت لها: كيف يمكنني أن أحقق ما أريد؟ لأني سمعتك تقولين أنكم تستطيعون خلق ما تريدون. فقالت: اشتغلي ولا تضيعي وقتك، لا تمنحي للشيطان وقت الفراغ ليسيطر عليك. هذه الكلمات آنذاك كانت غريبة عني، لأنها لم تدرس إلا المستوى الثاني ابتدائي وخرجت منه، فلم يكن لديها مستوى وعي أكبر. كانت تقول أنها في تلك الفترة تفهم في كل شيء، فكرت قليلا في اختبارها وأتيتها بكتاب كتب باللغة العربية وكان صعب الفهم، فأعطيتها لها وقلت لها: اقرئي لأسمع طريقة قراءتك إلى جانب أن تشرحي لي ما هو مكتوب هناك. فبدأت تقرأ وبسرعة، وتشرح لي بوضوح. هنا اندهشت وقلت: كيف يمكن لها قراءة وشرح كل هذه الأشياء و بسهولة؟.

بعد مرور يومين على هذه الحالة، أصرت أختي خديجة على أن تذهب للمكان الذي رأته، قائلة: "لن أمكث هنا ولو دقيقة، سأرحل للمكان الذي رأيته". لم يكن واضحًا لنا أي مكان رأته، لذا ذهب بها أبواي إلى أماكن مختلفة للعلاج والتشافي. ومع ذلك، في كل مرة تصل عند معالج، كانت تصرخ في وجهه وتقول: "أنا أعي ما أقول، ولن أمكث هنا حتى دقائق. يجب أن أرحل للمكان الذي رأيته، لم يعد هذا عالمي". كانت هذه الكلمات تؤكد على تصميمها وعزيمتها على الوصول إلى المكان الذي رأته، دون أن يكن واضحًا لنا ما هو هذا المكان أو ماذا تريد أن تفعله هناك.

في اليوم التالي، وصلوا إلى المدينة، وقرروا أن يحبسوها بالمنزل. لكن أختي خديجة كانت تريد أن تشم الهواء في السطح، فقالت لهم: "أريد أن اشم الهواء في السطح، رجاء دعوني أشم الهواء، فقد اختنقت في هذا البيت" واختلقت هذا العذر. وعندما ذهبت معها أختي لتراقبها، إذ بها تسلق الجدار وتسقط من أعلى المنزل إلى أسفل الشارع.

في تلك اللحظة، قالت كلمتها الأخيرة في وجه أمي وهي تبتسم رغم أنها كسرت من كل الجوانب: "يا أمي، لو تعلمين أين سأذهب، ما ذرفت ولو دمعة". تم نقلها إلى المستشفى، حيث عاشت بضع دقائق في غيبوبة، ثم وافتها المنية.

رحمة الله عليك حبيبتيرحمة الله عليك حبيبتي

بعد ذلك بأيام، جاءتني في أحلامي، قائلة: "كلثوم، سأرحل الآن". كان معها أشخاص يأخذونها من القبر ويصطحبونها معهم. للأسف، كنت في انتظارها، ووصل دورها في أن تفرش مكان نومنا لكنها رحلت.رحمة الله عليك يا أختاه ، والله يرزقك جنة الفردوس الأعلى…

KELTOUM AGOURRAME

KELTOUM AGOURRAME

كاتبة

كلثوم اكرام أعمل كمختصة اجتماعية في مؤسسة تعليمية،وابلغ من العمر 27 سنة،ولدي ميل للكتابة اكتشفته منذ فترة ولابد أن يحمل هذا الميل الهام لمساعدة الناس للتغيير للأفضل. ان وجودنا تعبير عن روح تعرف ما فيها وما عليها،ومتى اكتشف الانسان سبب وجوده وهدفه في الحياة سمح له ذلك بعيش الحياة بأسلوب أكثر جودة وباحساس هائل.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ