الفصل الأول من رواية صرخة في وجه العادات.

نوارة ولدعلي
أستاذة اللغة العربية وكاتبة .
آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
لا توجد تعليقات

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق

تسجيل الدخول

أمل، زهرة تتفتح

في قرية هادئة، حيث يختلط صفاء الطبيعة بصرامة العادات، نشأت أمل بين أحضان عائلة بسيطة. والدها مسعود رجل حاد الطباع، لا يتردد في رفع صوته لأتفه الأسباب، بينما والدتها عائشة كانت على النقيض تمامًا، امرأة حنونة بالكاد يُسمع لها صوت.

أمل تتأمل الطبيعة.أمل تتأمل الطبيعة.

في هذا البيت المتواضع، عاشت أمل مع شقيقها الأكبر عمر، الطالب في الثانوية، وشقيقتها الصغرى راضية، التي لا تزال في المدرسة التحضيرية. أما أمل، فكانت في مرحلة التعليم المتوسط، فتاة مشرقة تحمل من اسمها نصيبًا. ورثت خجل والدتها، لكنها امتلكت ذكاءً لامعًا، وابتسامة تنشر الفرح حيثما حلت.

لم يكن ذكاؤها عاديا، بل كانت متفوقة إلى حد أن زملاءها في المدرسة لم يحسدوها فقط على جمالها، بل على نبوغها أيضًا.

كانت الطالبة الوحيدة التي تستوعب الدروس قبل أن يُكمل المعلم شرحه، وتحفظ النصوص بعد ثلاث قراءات فقط. كراساتها منظمة، وخطها أنيق كأنه لوحة فنية.

كبرت أمل وكبرت معها أحلامها، كانت تحب الحرية، تكره الظلم، لا تؤذي حتى نملة، تمتلك قلبًا يتسع للجميع. كان طموحها بلا حدود، أرادت أن تدرس، أن تتعلم، أن تحقق ذاتها.

فرحة لم تكتمل

اجتازت أمل امتحان التعليم الابتدائي بتفوق باهر، لم تكن فقط الأولى في مدرستها، بل الأولى على مستوى ولايتها.

غمرت الفرحة قلب والدتها، وتباهى والدها بإنجازها أمام أهل القرية.

احتفلوا بها بذبح ديك وإعداد طبق الكسكس الشهير، كما وزعوا الحلوى والعصير على الجيران.

في ذلك اليوم، شعرت أمل أنها امتلكت العالم، وأقسمت أنها لن تسمح لأي شيء بالوقوف في طريق أحلامها.

مرّت السنوات سريعًا، وكبرت الفتاة الحلم، وها هي اليوم تحتفل بنجاحها في شهادة التعليم المتوسط، وسط فرحة العائلة. لكن ما لم تكن تعلمه، هو أن مصيرها قد تقرر في ذلك اليوم دون أن تُستشار.

"تم الاتفاق!"

بعد انتهاء الاحتفال، جلس والدها مع قريبه محمدالذي طلب يدها لابنه عادل وبكل بساطة قال:

"الصيف المقبل سنزوجهما اتفقنا؟"

رد والدها بحماس:

"نعم، اتفقنا!"

انصرف الضيوف، ولم تمضِ دقائق حتى زفّ مسعود الخبر السعيد للعائلة:

"لن نجد عريسًا أفضل من عادل ابن قريبنا محمد: شاب متعلم، مهندس، ومن عائلة محترمة!"

أما أمل، فقد كان وقع الخبر عليها كالصاعقة. شعرت أن الأرض اهتزت تحت قدميها، وكادت تفقد وعيها. كيف يُمكن أن تُجبر على الزواج وهي لم تكمل حتى عامها السابع عشر؟

جمعت شجاعتها، ومسحت دموعها، وخرجت تواجه والدها:

"أبي، أنا ما زلت صغيرة، أريد إكمال دراستي!"

لكن والدها قطع احتجاجها بجملة واحدة:

"لا نقاش! القرار اتُخذ، وانتهى الأمر!"

تدخلت الأم محاولةً إقناعه:

"لكن عادل في الثلاثين، وابنتنا لم تكمل السابعة عشرة!"

صرخ الأب بغضب:

"الرجل لا يُعيبه سنه! ثم إنني أعطيت كلمتي، ولن أتراجع عنها!"

انسحبت أمل إلى غرفتها، غارقة في دموعها، تندب حظها التعيس، وتُدرك أن أحلامها تنهار أمامها بلا حول ولا قوة.

خاتم الخطوبة... وخيبة الأمل

بعد أسبوع، أُقيم حفل الخطوبة، وألبسها عادل خاتمًا وسط زغاريد النساء. حاولت أن تبتسم، لكنها لم تستطع. كانت تشعر وكأنها حُكم عليها بالسجن المؤبد دون أن تُجرم.

مرت الشهور، ووجدت أمل نفسها عروسًا. حاولت إقناع نفسها بما لقنها إياه المجتمع:

"الزواج سنة الحياة... المرأة ليس لها إلا زوجها... العريس ابن عائلة ومتعلم..."

لكن في أعماقها، كانت تحلم بشيء آخر، كانت تريد الدراسة، الجامعة، مستقبلًا مشرقًا. غير أن العادات والتقاليد كانت أقوى من رغباتها.

رضخت لواقعها، وحاولت أن تكون زوجة صالحة. كان عادل شابًا طيبًا، حنونًا، متفهمًا، لكنها لم تستطع أن تجد السعادة التي لطالما حلمت بها.

الحنين إلى المئزر الأبيض

أصبحت ربة منزل، تغسل، تطبخ، تنظف، لكن قلبها ظل معلقًا بالماضي. كلما رأت الفتيات يحملن حقائبهن المدرسية، شعرت بوخزة في صدرها. كرهت القيود التي فُرضت عليها، وأصبحت أسيرة الاكتئاب.

أصبحت هزيلة، انطفأت ابتسامتها، فقدت شهيتهاللأكل، وسكن الحزن عينيها. كانت تنوي الرحيل عن هذا العالم بصمت، فقد سُلب منها أبسط حقوقها: حقها في التعلم.

اجتمعت العائلة حولها وهي ممددة على سريرها، يحدقون بها بنظرات شفقة، غير مدركين أنهم السبب في حالتها. لم تلمهم، لم تعاتبهم، فقد كانت تعلم أن المعركة قد حُسمت، ولا جدوى من العتاب.

قرار عادل

لكن شخصًا واحدًا أدرك الحقيقة... عادل.

نظر إليها، ورأى فتاة تُحتضر وهي على قيد الحياة. قرر ألا يقف مكتوف اليدين، وانطلق فورًا إلى أقرب مدرسة خاصة، وقام بتسجيلها.

عاد إلى المنزل، جلس بجوارها وقال بحزم:

"هذه المهزلة ستنتهي اليوم. ستكملين دراستك، وستحققين أحلامك، أعدك بذلك!"

نظرت إليه بذهول، لم تصدق ما تسمعه. سألته بارتباك:

"أحقًا ما تقول؟"

ابتسم وقال:

"نعم، وبعد حصولك على البكالوريا، ستدخلين الجامعة، وسأشتري لك سيارة تذهبين بها!"

لأول مرة منذ زواجها، شعرت أمل أن الحياة تبتسم لها من جديد. ارتمت في حضنه باكية:

"شكرًا لك... يا أفضل زوج في العالم!"

في اليوم التالي، ارتدت ملابسها الجديدة، حملت حقيبتها، وانطلقت في طريقها إلى المدرسة، حيث كانت تنتظرها أحلامها التي كادت أن تضيع.

فقد أدركت أن العلم نور، وأن الجهل والتقاليد البالية هما الهاوية الحقيقية.

نوارة ولدعلي

نوارة ولدعلي

أستاذة اللغة العربية وكاتبة .

متقاعدة من التعليم وأدرس حاليا في مدرسة خاصة ،أهوى كتابة المقالات والقصص ،شاركت في العديد من الكتب الإلكترونية على غراركتاب : أثري قبل الرحيل وكتاب ماذا بعد ،كما أكتب في عدة منصات.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ