أنتَ لستَ ماضيك
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولمُقَدِمة:
مُقَدِمة:
الماضي هو كُل شيء مَضى، أي رحل لم يعُد موجود بحاضرك الأن ولم تعُد تختَبِرَهُ بحواسك الخمس، على المُستوى الشخصي هو مجموعة من الأحداث، السيناريوهات، والسلوكيات التي حصلت بزمن سابق، وَّلَدت مشاعر وذكريات خُزِّنَت بالذاكرة الفكرية والنفسية، موجودة بالخيال والدماغ وليس بالواقع المادي.
وعليه نرى أنَ ذكريات الماضي مُكتسبة وغير فُطرية، إذاً طالما إكتسبناها نستطيع خلعها كالرداء القديم طالما لا يخدمنا ومُتسخ نستبداله بأخر جديد. ولكن هُناك الكثير من الأشخاص تتمسَك بماضيها وترفُض تحريره والتخلي عنه على المستوى اللاواعي، لماذا؟ وهل هذا هو الصحيح؟ ما نتائج ذلك على حياتها؟ وما الحل لذلك؟
هذا ما سنُعالجه بهذا المقال، الهادف إلى تقديم رؤية مميزة حول أسباب تمسُكك بذكرياتك الماضية، وتحفيزك على تغيير رؤيتك له، نتيجة لنفعته العظيمة على حياتك.
أولاً: لماذا تتمسك بماضيك؟
اقرأ ايضا
· الرفض له:
ترفُض ما حدث بسبب تصنيفات المُجتمع والأهل أن ما فعلته عيب أو حرام وخطيئة، والخوف من العقاب إذا فعلت أمور تُنافي ما يقولونه هذا ما تعودنا عليه بالطفولة، فتبدأ تشعُر بالخطيئة وأنك مُذنب وتلوم نفسك "لماذا فعلت هذا؟" وتندم "يا ليتني لم أفعله"، فترميه في الجانب المُظلم باللاوعي ويُصبح سر تكتمه، تخاف أن يعرفه أي شخص، ويُصبح يُحركك وأنتَ لا تُدرك. لا تَدري كم يجعلك تفعَل أمور لا تنفعُك ولا تُريدها فتتسائل "لماذا أفعَل أمور لا تتناسب مع مُستوى نُضجي ووعي؟".
فتتمنى أن ترجع للوراء لتُغيِّرَهُ، وتبقى عالق بدوامة الماضي، لأنك تظُن أن ما حَصَلَ بالماضي غير قادر على تغييره الآن.
· الخوف من أن يكشف أحد أسرارك:
الطُفُل نظامَهُ الإدراكي يُضَخم الأمور، ويقوم ببناء إرتباطات لاواعية غير منطقية، لأن رؤيته للأمور محدودة، فإذا سرق المال من أخيه هههه يعتبره جُرُم كبير ويحاول التمسُك به وتخبئته كي لا تُعاقبه أمه وتضرُبَهُ، فيشعر بذنب كبير على شيء لا يستحق. لهذا طفلك الداخلي يتمسك بمواقفه التي يصنفها أنها ذنب، ويحاول تخبئتها كي لا يعرفها أحد خصوصاً أهله.
الأن مسؤوليتك العودة لطريقة تفكير طفلك الداخلي وتقبُلها كما هي، ومن ثُمَ عقلنة كُل الأحداث، جعل طُفلك الداخلي يَنضُج، يحتاج لإستبصار داخلي، مُراقبة الأفكار والمشاعر وصفاء ذهني عالي.
· الخوف من تشويه صورتك:
أنت تشوّه صورتك الذاتية بالإعتماد على ماضيك، ثُمَ تخاف أن يُدرك الأخرين ذلك ويُشَوِّهُون هُم بالتالي صورتك، ولكن هذه الأفكار فقط بدماغك غير موجودة بالواقع الحسي، وهذه ظنونك وإسمَح لي قول أنها وهمية غير موجودة، أنت فقط تُصدِقُها وتراها كحقيقة.
دعنا نعقلن الموضوع سوياً، إفتراضاً أن أحد عرف وقام بتشويه صورتك، لماذا تخاف؟ فليشوّهها، فأنتَ تعرف أنَكَ لستَ ما يعتَقِدَهُ الأخرين عنك، بل أنتَ كيان مُتكامل مُتعدد الأبعاد ولستَ أخطاءك البسيطة.
ستقول لي ولكن سيَرفُضني إذا أخبره أحد، أو قد يَترُكُني، أو لن يعود يُحبُني كالسابق، إذاً ما يُحركك هو الخوف من شعور الرفض، ومن جرح الهجر، ومن شعور أنك غير محبوب.
ولكن دعني أقول لَكَ سر يُطَمئِنُك، يقول جلال الدين الرومي: "النَاس صُنفان، مَن أراد منهُم هجرك وجَدَ في ثُقُب البابِ مخرجاً، ومَن أراد ودك ثَقَبَ في الصَخرَةِ مدخلاً"، وعليه من يتركك لأجل تجارب حصلت معك في الماضي هو لا يستحق أساساً أن يكون بحياتك، وهو شخص مُزيف غير مُتصالح مع ذاته ورافض عيوبه، لا يخدُمك بحياتك، ونحنُ نُريد أشخاص حقيقيون لا يهُمُنا المُزيفون.
· الخوف من عقاب الله:
هذا وَهم زرعَهُ برأسك المجتمع، أتظن أن الله سيُعاقبك على موقف فعلته وصنفه هو أنه خاطئ وأنت صدقته بعمر غير ناضج لتختار ما يُناسبك وما لا؟ مَن قال أنَ تصنيفاتهم صحيحة؟ مثال: صرختَ على أمك بسبب غضبك المكبوت منها لأنها ضايقتك، وأنت طفل لا تعرف كيف تفرغه سوى بهذه الطريقة فقالو لك عيب حرام "رضا الله من الرضا الوالدين، الله رح يُغضَب عليك" وأنت صدقتهم، وأصبحت يوماً بعد يوم يزداد خوفك من الله وتهرب من هذا الخوف كي لا يُعاقبك، وتشوّهت علاقتك وإتصالك الفُطري به.
والطفل يكون مركز القرار وقُدُرات الفهم والتحليل لديه ضعيفة، لهذا صعب يتحكم بنفسه ويأخذ قراراته الصحيحة، فقبل عمر ال25 تكون هرمونات الفرد تتحكم به والإيغو لهذا يفعل الكثير من السلوكيات غير مقبولة إجتماعياً، فغريزة البقاء تحركه وليس العقل الواعي، أتظُن أن الله سيُعاقب طفلاً على أمور يجهلها؟
الله يُحبك كما أنت، يرحمك، يحن عليك، يغفر لك، تخايل أنتَ نفخة من روح الله، هذه أعظم إكرام منه للإنسان، هو يُريدك أن تزرع خيراً، أن تنشُر المحبة والمُسامحة بين مخلوقاته، لا يُريدك أن تخاف منه وتهرُب من عقابه.
إذا حَلَلنا ما سَبَق سَنَجد أن كُل الأسباب تتمحور حول مخاوف مُجتمعية زرعتها مؤسسات التنشئة الإجتماعية بك وأنت طفل ولا زالت تحركك دون وعي منك، وحتى لم تُشكك بموروثاتك، وهذه المخاوف تجعَلَكَ مُعظَم أوقاتك تُّرَكز على السلبيات الماضية وليس الإيجابيات والحلول وتعلُّم الدروس.
ثانياً: النتائج:
التمسُك بالماضي كأن تكون أنت شجرة، ولديك أوراق إصفَّرَت حان وقت تساقُطِها لأنها خدمت نموك بمرحلة مُعينة، أدَت دورها، ولكن أنتَ تتمسك بها وتقول أُريدك أن تبقي لا تذهبي أرجوكي! ولكن أنت تحتاج تجديد أوراقك لتُصبح خضراء تنفعك وتنفع محيطك، هذا إستنزاف للطاقة وعائق أمام تقدُمك ونموّك. الأن مسؤوليتك أن تسيقظ على نفسك وتُفلت التَمَسُّك بالماضي، الكلمة الشهيرة التي أقولها "فيققق عا حالك فيققق من غفلتك، عَم تعيش بوَهم أنت تخلُقَهُ بدماغك"، أبرز النتائج لذلك هي:
· ألم أسفل الرأس بشكل شبه دائم
· عُسُر كبير بمختلف أمورك "تقول ما في شي عم يُزبَط معي"
· تبقى مُستهلَك طاقياً، رُغم أن نمط حياتك جيد ولكن عندما تستيقظ سُرعان ما تجد بطاريتك الطاقية فرغت، والسبب أن المشاعر المكبوتة بالماضي تأخذ من هذه الطاقة
· عائق أمام تدفق طاقة الحياة بشكلها الطبيعي بالخيال والذاكرة والرحم فينخفض مستوى إبداعك
· كُل عضلاتك تبقى مشدودة خصوصاً الأكتاف، صعوبة الإسترخاء بشكل دائم
· أعضاء جسدك لن تعمَل بشكلها الطبيعي كما تعمَل عندما تعيش اللحظة، وعلى المدى البعيد كثرة التراكُمات تُحدث أمراض جسدية متنوعة بحسب نوع المشاعر المكبوتة، إذا مشاكل بالعلاقات العاطفية ستجد الأمراض غالباً تتركز في منطقة الأعضاء التناسُلية والكلى
· عزيزتي الأنثى ستشعُرين بألم رهيب في الرحم لديك، لأن الرحم هو ذاكِرة المشاعر المكبوتة لدى الأنثى، وطاقة الرحم هي طاقة الخلق، فتخلقين وتجذُبين أحداث سلبية لا تُريدينها، وأحياناً إذا تطوّر الوضع ولم يحدُث تحرر وتشافي يُصبح لديكِ أمراض بالرحم ولخبطة بالدورة الشهرية، ولا تعرفين أن السبب نفسي.
· وجود صِراع داخلي واضح، وتناقض بأفكارك، لا تبقى ثابت على موقف واحد، يؤذي علاقاتك بشكل كبير
· لا تمشي بشغفك بالحياة، بما أنتَ تُحب بعمق، ولا تعرف ماذا تُريد، فقط الذات المجروحة تحركك.
ثالثاً: الحلول:
"مَن لم يتحرر من ماضيه لَن يعرف كيف يعيش اللحظة ولن يذوق طعم السلام النفسي والحرية الحقيقية"
إن لَم تَقبَل ماضيك لن يقبَلَهُ أحد ولن تقبل شخصيتك كما هي، فهو تاريخك الذي ساهم ببناء شخصيتك الحالية، تراكُم خُبُرات ومعارف، إنهيار براديغمات طفولية ونشوء أُخرى أنضَج منها، هذه هي العملية الطبيعية لتُصبح أفضل نُسخة من نفسك. وكُلُنا كُنا بمستوى وعي طفولي وأخطأنا لستَ وحدك، لا تدع الماضي يتحكم بك فهو مجرد سيناريو كالفيلم لم يعُد موجود، أنتَ لستَ الفيلم بل أنت الأساس المُشاهد.
· عليك أن تُدرك أن الماضي موجود فقط بالخيال والذاكرة، إذا أتت فكرة منه عليك إدراكها وعقلنتها كي لا تحركك دون وعي فقط، وليس تعلَّق بدوامة السلبيات وتجرفك وتوقف إنجازاتك، ولا تجعل الأفكار سيّدة عليك بل أنتَ تخلقها وأنت السيد عليها، أساساً هي موجودة بدماغك أنت ولستَ أنتَ موجود بها.
· ماذا ستستفيد إن رفضت الماضي؟ لا شيء بل ستؤذي نفسك
· هذه التجارب لتتعلم وليس لتعلق بدوامة من السلبية (لوم ندم ذنب)
· البوح بكُل شيء تراه سر وتخاف أن يعرفه أحد لشخص مقرب حقيقي وتثق به، ستجد أنك لستَ الوحيد الذي حصل معه هذا، بل سيبدأ هو أيضاً يُشاركك أسراره وتضحكان سوياً، وهذا مُفتاح للتقبل
· بدل من الندم وقول يا ليتني لم أفعل هذا تسائل ما الدرس الذي عليّ تعلُّمَهُ من هذه التجرُبة؟ وما القناعة أو المُعتقدات باللاوعي الذي عليّ تطويرها؟ وما الفراغات العاطفية والجروح النفسية التي عليّ شفاءها؟ ما الحلول؟
· الماضي فيه إيجابيات وسلبيات، قُم بتقييمه بواقعية، وإعتبره نعمة من الله لا نُقمة، إذ ساهم ببناء قدرتك على التحمل والمواجهة.
· صحيح أنك لا تستطيع تغيير الماضي ولكن تستطيع تغيير نتائجه الأن بحاضرك وتقبله
· الأن أصبحت ناضج لا أحد يستطيع مُعاقبتك بل أنت مسؤول عن ذاتك
· إعشَق الله ولتقترب أكثر منه، خلاصك وحريتك به ومعه، فهو يعلم ما لا نعلم، تقول الأية الكريمة: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، تخايل أن الله وملائكته يُصلون عليك لتنويرك لتحريرك.
رابعاً: التأمُل للتحرُر من الماضي:
هذا التأمُل إبتكرته وساعدني كثيراً بالهدف المذكور، ليسَ من الضروري أن تلتزم به بحرفيته ولكن إفهَم الجوهر وتواصل مع داخلك بلغتك الخاصة، وهو يتطلب صفاء ذهني عالي، يُفضل أن تكون بالطبيعة ووحدك.
إسترخي بكُل خلية بجسدك، أنتَ بأمان تام، أغمض عينيك وإبدأ التركيز على النفس، تواصَل مع الله بلُغتك الخاصة دون أي حواجز بعفوية تامة، أعلَم يا الله أنني دخلتُ الكثير من السيناريوهات والتجارُب بالماضي، وأعلم الكثير منها أذاني وأذى الكثيرين معي دون وعي مني، أنا كُنتُ أجهل كُل هذا، كانت عُقدي وفراغاتي وصدماتي النفسية تُحركني، وأعلَم أن كُل هذه التجارب حصلت وفق تخطيطك يا الله، أُسلم كُل تجاربي بالماضي لك، ما الحكمة والدروس التي عليّ إستقبالها الأن؟ ما الأمور التي عليّ تغييرها الأن؟ كيف أستطيع أن أخدمك وأساعد مخلوقاتك بالإعتماد على دروس الماضي؟ كيف أتشافى وأنشُر طاقة شفاء لكُل من حولي؟
والأن إستشعر نور الله يدخُل بدماغك وذاكرتك وأنتَ بقُمة الإسترخاء، إستشعر كيف حنان الله ودفئه ومحبته يملئك، يُطهر ذاكرتك وخيالك، يُسامحك ويغفُر لك
والأن إفتح قلبك ووسع نفسك لإستقبال الحكمة اللامحدودة للإرتقاء بمستوى نُضُج جديد.
بعد إنتهاء هذا التأمُل من قلبك قد تبكي قد تتحرر أفكار ومشاعر عالقة قديمة، ستشعر في صباح اليوم التالي بأن كُل الشدود في أكتافك ذهبت، والشعور الثابت هو السلام والسكينة العميقة والشعور بالحُرية، ستأخذ نفس عميق وتقول: "خييييييييي هههه" كأن حجارة كُنت تحملها وأُزيلت عنك، ستزيد نسبة يقظتك وحضورك.
"أنتَ لستَ ماضيك"
مُلاحظة:
هذه المقالة صعب أن تُطبق لدى شخص غير مُتصل بداخله ولديه وعي ذاتي مُنخفض، وغير مُتشافي من جزء كبير من صدماته، لأن التحرير دُفعة واحدة بهذه الطريقة سيُساهم بإحداث إضطراب نفسي لدى الشخص، لهذا أتمنى أن تُرشدك إلى البدء بتشافي داخلك وتحرير صدماتك تدريجياً، لتصل إلى هذه المرحلة المُتقدمة.
عزيزي القارئ شُكراً لإكمالك القراءة، أعلَم أنك تنوي إحداث تغيير بحياتك وأنا فخورة بك، أُحب أن أقول لك أنني أتقبَل ماضيك كما هو مهما فعلت أنت مقبول ومحبوب كما أنت.
Zahraa Mallah
طالبة جامعية، كاتبة إبداعية، محللة ومفكرة اجتماعيةطالبة بالجامعة اللبنانية، حاصلة على إجازة بالعلوم الاجتماعية، ماستر ٢ تنمية اقتصادية واجتماعية شغوفة بتطوير المجتمع وتحريره من قيوده الفكرية التي ترجعه للوراء
تصفح صفحة الكاتب