أصوات تحت الأنقاض: شهادات حيّة من غزة لا تجد من يسمعها.
أصوات تحت الأنقاض: شهادات حيّة من غزة لا تجد من يسمعها.
(قلمي شاهدٌ على الذين ماتوا، ولم يشهد عليهم أحد)
حياة لا تُعدّ بالساعات:
في غزة، لا تُقاس الحياة بالساعات ولا تُعدّ بالأيام.الوقت هنا يُحسب بعدد الصواريخ التي سقطت، بعدد البيوت التي تحولت إلى رماد، بعدد الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن دون أن يودعنهم.هنا، تُولد الشهادة قبل أن يُولد الطفل، ويُدفن الصوت قبل أن يُنطق.
الركام يتكلم:
الركام ليس مجرد حطام.هو ذاكرة مهدومة، حكايات مبتورة، أحلام سقطت قبل أن تكتمل.كل حجر يحمل اسمًا، وكل كومة تراب تُخفي قصة لا يعلمها أحد.طفلة كانت تحلم بعيد ميلادها، أم تُرضع صغيرها، أو عائلة بأكملها سجدت ثم ارتفعت أرواحها.
صرخات لم يسمعها أحد:
من بين الأنقاض خرجت أصوات مبحوحة تقول: "نحن هنا"، لكنها لم تجد يدًا تنتشلها، ولا أذنًا تصغي.أم علاء قالت: "كان يناديني من تحت الردم، لكني لم أقدر أن أنقذه. خفت صوته تدريجيًا… وسكن قلبي معه."فتاة ضمّت شقيقها الصغير معتقدة أنه نائم… لكن الموت كان أسبق.الجد في الخيمة البالية تمتم لحفيده: "كنا نملك بيتًا وسقفًا، اليوم نملك وطنًا ممزقًا وبردًا لا يرحم."
العالم الأصمّ:
في غزة، لا يموت الناس فقط بالقصف، بل بصمت العالم.صمت لم يكن حيادًا، بل مشاركة.الذين يملكون المنصات أغلقوها، والذين يملكون القلوب صمّموها على التجاهل.لا عدالة حين تصبح المجازر خلفية عادية لنشرة الأخبار.
الكتابة هنا كالمقاومة:
نكتب لأن الحروف هي ما تبقى لنا، في زمن فقدنا فيه كل شيء، حتى الوجوه التي كانت تبتسم في وجهنا كل صباح، والأسماء التي اختفت كما تختفي الرياح. في هذا العالم الذي يحاول أن يمحو تاريخنا، نكتب كي نثبت أن لنا مكانًا في هذا الكون.لا قبر يضمهم، لكننا نكتب لهم، حتى لا تُنسى تفاصيلهم الصغيرة. نكتب لأن الذاكرة هي ما نملك، والماضي هو وطننا الوحيد. في كل حرف، هناك ثورة، وفي كل كلمة، صمود لا ينكسر. نكتب لأن الكتابة هي مقاومة، هي الصوت الذي لا يمكن أن يخرس مهما كانت الأبواب مغلقة.
نكتب لأننا على يقين، أن الكلمات أقوى من الموت، وأن الذاكرة أقوى من كل شيء، وأن الوجوه التي غابت ستظل حية في السطور التي نكتبها.
لا نقوى على رفع الصوت، لكننا نقوى على الحبر، نخط به قصصًا تُدمى القلب. كلماتنا ليست مجرد حروف، بل هي صرخات مقيدة، تنبع من أعماق الأرض التي بللها دمنا، نروي بها جراحنا التي لا تندمل.
من دفنوا بلا وداع:
"كنت هنا… لم أمت بصمت، بل صرخت… ولم يسمعني أحد."ليست جملة من رواية خيالية، بل صرخة حقيقية خرجت من تحت الأنقاض، من صدر طفل كان يختنق بالغبار وهو يتمسك بقطعة خبز ناشفة خبأتها أمه له قبل أن تموت.
فتاة لم تتجاوز العاشرة، وجدت تحت الركام وهي تعتصر جسد شقيقها الأصغر… لم تكن تعرف أنه مات بين ذراعيها.كانت تهمس له: "لا تخف يا يحيى، ماما رح ترجع."لكن الأم كانت قد ماتت… والأب اختفى… والسماء وحدها سمعت أنينها.
في زاوية خيمة، جلس رجل ستيني يضم بين يديه صورة ممزقة، لأربعة أولاده.قال بهمس موجوع:"كنت أصرخ بأسمائهم في المستشفى… ما أجابني غير الصمت. دفنوا كل واحد في كيس أسود، بدون كفن، بدون دعاء، بدون حتى وردة… دفنوا ودفنوا روحي معهم."
هناك أمّ دفنت ابنها بيديها بعدما سحبوه إليها جثة بلا ملامح.رفضت أن تتركه، نامت فوقه ليلة كاملة في البرد،وقالت: "برد الدنيا أهون من برد قبره وحده."
في غزة، لا وقت للوداع.لا نعوش، لا جنازات، لا صلوات.الجثث تُجمّع فوق بعضها كأكياس طحين،ويُكتب على أكفانها أرقام لا أسماء، كأنهم لا يستحقون حتى أن يُعرفوا.
الذين ماتوا تحت الأنقاض لم يكونوا فقط ضحايا القصف…بل كانوا ضحايا النسيان، ضحايا صمت العالم، وضحايا العجز.
فمن يكتب أسماءهم؟من يحفظ ملامحهم؟من يقول للعالم: هنا كانت روح… وكانت تحلم؟
في غزة، لا تُحفر القبور فقط في الأرض…بل في القلوب.وهناك، بين الألم والرماد،ما زالت أرواح تُنادي: "لا تنسونا… لا تدفنونا مرّتين."
الخاتمة: حين لا يسمع أحد،
في غزة، لا تنتهي الحكاية عند القصف…بل تبدأ عند الصمت الذي يليه.الصمت القاتل، الذي يجعل من صرخة الطفل مجرد صدى،ومن دموع الأمهات بخارًا في الهواء، لا يراه أحد.
نحن لا نكتب لنبكي فقط، بل لنقاوم النسيان.لأن أخطر ما قد يحدث بعد الحرب…أن يعتاد العالم موتنا،أن يمرّ من أمام جثثنا كأنها مشهد سينمائي لا يخصه.
في غزة، مات الذين تحت الأنقاض،لكن الأكثر وجعًا…أن يموتوا مرّة أخرى في ذاكرة لا تحفظ أسماءهم،وفي قلوب لا تبكيهم.
فاكتبوا عنا…احكوا حكايتنا…لعلّ أحدًا يسمع،قبل أن نصبح مجرد غبار آخر في رياح التاريخ.
المراجع

Breaking News, World News and Video from Al Jazeera
News, analysis from the Middle East & worldwide, multimedia & interactives, opinions, documentaries, podcasts, long reads and broadcast schedule.
تصفح المرجعالمراجع

الجزيرة نت
الأخبار والتحليلات من الشرق الأوسط والعالم ، الوسائط المتعددة والتفاعلات ، الآراء ، الأفلام الوثائقية ، البودكاست ، القراءات الطويلة وجدول البث
تصفح المرجع


Nada El.Najjar
كاتبة من غزة ،أوثق الحكايات المنسية ، وأتكلم بصوت من لا صوت لهم.من غزة، أكتب كي لا أموت مرتين. أكتب لأن صرخة الطفل تحت الركام لا تصل، لكن الحرف قد يصل. كل نص أكتبه هو بقايا روح، وندبة لم تُشفى. لم أتعلّم الكتابة من الكتب، بل من صوت القصف، ومن حضنٍ صار ترابًا. حروفي ليست جميلة… إنها وجع، حقيقية، تنزف كما أنزف. أنا لا أكتب… أنا أبكي على الورق.