أسطورة وحش جيفودان.. عندما تجتمع الخرافة والدعاية مع الأهداف السياسية

وحش جيفودان (بالفرنسية: La Bête du Gévaudan) هو مخلوق أسطوري مرتبط بسلسلة من الهجمات المميتة في مقاطعة جيفودان السابقة، الواقعة في جنوب وسط فرنسا (لوزير الحديثة وأجزاء من هوت لوار)، بين عامي 1764 و1767. القصة هي واحدة من أشهر الألغاز التاريخية في فرنسا، حيث تمزج عناصر من الحقيقة والفولكلور والتكهنات. فيما يلي نظرة عامة مفصلة على الأسطورة وسياقها التاريخي.
الخلفية والمكان:
الفترة الزمنية: وقعت الهجمات في عهد الملك لويس الخامس عشر، بعد فترة وجيزة من حرب السنوات السبع (1756-1763)، وهي فترة من الصعوبات الاقتصادية والتوتر السياسي في فرنسا.
الموقع: كانت جيفودان منطقة نائية وريفية وجبلية في جبال مارغيريد. كانت المنطقة ذات كثافة سكانية منخفضة، مع وجود الغابات والمستنقعات وأراضي الرعي، مما يجعلها مثالية للحيوانات المفترسة ولكن من الصعب القيام بالصيد المنظم.
السياق الثقافي: في فرنسا في القرن الثامن عشر، كانت الخرافات منتشرة على نطاق واسع، وكانت الذئاب تشكل تهديدًا شائعًا للماشية وأحيانًا البشر. أدى عزل المنطقة إلى تضخيم المخاوف، وسرعان ما اتخذت الهجمات بُعدًا غامضًا ومرعبًا.
بدء الهجمات (1764):
وقع أول هجوم مسجل في أوائل صيف عام 1764، بالقرب من لانغوني في غابة ميركوار. تعرضت امرأة شابة ترعى الماشية للهجوم من قبل مخلوق وصفته بأنه "مثل الذئب، ولكن ليس ذئبًا". طرد قطيع الثيران الوحش بعيدًا، مما أنقذ حياتها.
في 30 يونيو 1764، قُتلت أول ضحية رسمية، جين بوليت البالغة من العمر 14 عامًا، بالقرب من ليه هوباك، بالقرب من لانغوني أيضًا. سُجِّلت وفاتها في سجلات الكنيسة على أنها ناجمة عن "الوحش الشرس" (la bête féroce)، مما يشير إلى أن هجمات سابقة لم يتم الإبلاغ عنها ربما حدثت.
وبحلول الثامن من أغسطس عام 1764، قُتلت فتاة ثانية تبلغ من العمر 14 عامًا بالقرب من ماس ميجان، وتصاعدت وتيرة الهجمات ووحشيتها. غالبًا ما تم العثور على الضحايا، ومعظمهم من النساء والأطفال، وقد تم تمزيق حناجرهم أو سحق رؤوسهم أو أكلها جزئيًا.
وصف الوحش:
تنوعت روايات شهود العيان، لكن الأوصاف الشائعة تضمنت:
مخلوق كبير يشبه الذئب، بحجم العجل أو البقرة، بصدر عريض وأذنين قصيرتين وذيل طويل كثيف ينتهي بخصلة.
فراء محمر أو أسمر مع خطوط داكنة أو خطوط، وخط أسود على ظهره.
أسنان ومخالب هائلة، قادرة على القفز لمسافات كبيرة والتحرك "بسرعة خارقة للطبيعة".
زعمت بعض التقارير أن الوحش كان ينبعث منه رائحة كريهة، وكانت هجماته عدوانية بشكل غير عادي، حيث كان يستهدف الرأس وليس الأرجل أو الحلق، وهو أمر غير معتاد بالنسبة للذئاب.
أدت هذه الأوصاف إلى تكهنات بأن الوحش لم يكن ذئبًا نموذجيًا بل شيئًا أكثر غرابة أو خارقًا للطبيعة، مثل:
ذئب كبير، أو هجين من ذئب وكلب، أو قطيع من الذئاب.
حيوان غريب هارب، مثل الضبع، أو الأسد، أو الضبع المخطط.
كيان خارق للطبيعة، مثل المستذئب أو العقاب الإلهي (وهو اعتقاد غذاه أسقف مندي، الذي أطلق عليه اسم "آفة الله").
عهد الإرهاب (1764-1767):
حجم الهجمات: بين عامي 1764 و1767، ارتبط الوحش بحوالي 198 هجومًا، مما أسفر عن 88 حالة وفاة و36 إصابة. تشير بعض التقديرات إلى ما يصل إلى 300 حالة وفاة، على الرغم من عدم الإبلاغ عنها جميعًا رسميًا.
الضحايا: استهدف الوحش في المقام الأول النساء والأطفال، وغالبًا ما كانوا رعاة أو فلاحين يعملون بمفردهم في حقول معزولة. وكان تفضيله للفريسة البشرية على الماشية أمرًا غير عادي وزاد من المخاوف.
ضجة إعلامية: انتشرت القصة بسرعة عبر الصحف والمجلات، مثل كورير دافينيون ولا جازيت دو فرانس. وأصبحت واحدة من أولى الإثارة الإعلامية الدولية، حيث وصلت التغطية إلى إنجلترا وألمانيا وما وراءهما. وسخرت الصحافة الإنجليزية من عجز الملك لويس الخامس عشر عن إيقاف الوحش، مما أضاف ضغوطًا سياسية.
جهود مطاردة الوحش:
المقاومة المحلية: نظم القرويون عمليات صيد ورحلات صيد جماعية، لكن الجهود المبكرة فشلت بسبب مراوغة الوحش والتضاريس الوعرة. بعض السكان المحليين، مثل جاك بورتيفييه وأصدقائه، صدوا الوحش ببسالة، وحظوا بتقدير ملكي.
التدخل الملكي: لفتت الأزمة المتصاعدة انتباه الملك لويس الخامس عشر، الذي عرض مكافأة قدرها 6000 ليرة (تعادل راتب عام للعديد من العمال) وأرسل قوات وصيادين محترفين إلى جيفودان.
الكابتن دوهاميل (1764-1765): قاد جان بابتيست دوهاميل، وهو كابتن فرسان، أول عملية صيد كبرى مع 57 فارسًا و30 ألف متطوع. استخدم طُعمًا مسمومًا وحتى أنه جعل الجنود يرتدون ملابس نساء فلاحات لجذب الوحش، لكن جهوده أعاقتها المقاومة المحلية ومكر الوحش.
ماري جين فاليه (11 أغسطس 1765): تعرضت فاليه، المعروفة باسم "خادمة جيفودان"، للهجوم أثناء عبور نهر ديجيس مع أختها. مسلحة بحربة مثبتة على عمود، طعنت الوحش في صدره، مما أدى إلى إصابته. ورغم نجاتها، فقد اكتسبت شهرتها بفضل شجاعتها، ويوجد تمثال لها في أوفيرز اليوم.
فرانسوا أنطوان (20 سبتمبر 1765): قتل حامل السلاح الشخصي للملك، فرانسوا أنطوان، ذئبًا رماديًا كبيرًا بالقرب من دير شاز، يبلغ ارتفاعه 80 سم وطوله 1.7 متر ووزنه 60 كجم. وقيل إنه عُثر على بقايا بشرية في معدته، وتم تحنيطه وإرساله إلى فرساي. تم الاحتفال بأنطوان، لكن الهجمات استؤنفت بعد فترة وجيزة، مما يشير إلى أن هذا لم يكن الوحش.
القتل النهائي (19 يونيو 1767):
بعد مقتل ذئب أنطوان، فقدت البلاط الملكي اهتمامه، لكن الهجمات استمرت. نظم أحد النبلاء المحليين، ماركيز دابشر، عملية صيد أخرى.
في 19 يونيو 1767، أطلق جان شاستيل، وهو صياد محلي من بيسييه سانت ماري، النار على حيوان كبير وقتله أثناء عملية صيد في سوجن دوفير. توقفت الهجمات بعد هذا القتل، مما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن شاستل قتل الوحش الحقيقي.
أسطورة الرصاصة الفضية: زعمت الفولكلور اللاحق أن شاستل استخدم رصاصات فضية مصنوعة من ميداليات مريم العذراء المذابة، وأنه كان يقرأ الكتاب المقدس ويصلي عندما اقترب الوحش، منتظرًا أن ينتهي. من المحتمل أن تكون هذه التفاصيل مجرد زخارف، حيث كان لشاستل وعائلته سمعة سيئة، ولا توجد سجلات معاصرة تؤكد قصة الرصاصة الفضية.
أُرسلت الجثة إلى فرساي، ولكن بسبب رحلة طويلة وطقس حار، وصلت متحللة ودُفنت، مما منع المزيد من الدراسة.
نظريات حول الوحش:
لا تزال هوية وحش جيفودان لغزًا، مع العديد من النظريات:
الذئب أو قطيع الذئاب:
النظرية الأكثر قبولًا على نطاق واسع هي أن الهجمات كانت ناجمة عن ذئب أو أكثر من الذئاب الأوراسية الكبيرة العدوانية. كانت الذئاب شائعة في فرنسا، وتم تسجيل آلاف هجمات الذئاب بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر.
يزعم المؤرخ جاي إم سميث أن جيفودان عانى من "غزو الذئاب"، وربما كان العديد من الذئاب مسؤولين عن ذلك.
ومع ذلك، تتجنب الذئاب البشر عادةً، وتصطاد في مجموعات، وتستهدف الأرجل أو الحلق، وليس الرأس، مما يجعل هذه النظرية غير مكتملة.
حيوان هجين الذئب والكلب أو حيوان مدرب:
يتكهن البعض بأن الوحش كان هجين الذئب والكلب أو كلبًا كبيرًا مدربًا للقتل، ربما من قبل إنسان (على سبيل المثال، عائلة شاستيل، التي أشيع أنها متورطة في أنشطة مشبوهة).
تفسر هذه النظرية سلوك الوحش غير المعتاد وحجمه ولكنها تفتقر إلى أدلة قاطعة.
حيوان غريب:
تتضمن النظريات ضبعًا هاربًا أو أسدًا أو ضبعًا مخططًا، ربما من حديقة حيوان خاصة لأحد النبلاء. تتطابق هذه الحيوانات مع بعض الأوصاف (على سبيل المثال، الخطوط، والرائحة الكريهة، والقدرة على القفز) ولكن من غير المرجح أن تبقى على قيد الحياة لفترة طويلة في البرية.
أشارت المنشورات على X إلى أن الوحش كان ذئبًا عملاقًا هرب من السيرك، لكن هذا افتراض تخميني ولا تدعمه أدلة تاريخية.
خارق للطبيعة أو ذئب ضاري:
في ذلك الوقت، اعتقد البعض أن الوحش كان ذئبًا ضاريًا أو عقابًا إلهيًا، غذاه "تفويض أسقف ميندي"، الذي أعطى الأزمة بعدًا صوفيًا.
استندت الثقافة الشعبية الحديثة، مثل المسلسل التلفزيوني Teen Wolf وفيلم Brotherhood of the Wolf (2001)، إلى سرد الذئاب الضارية، لكن السجلات التاريخية لا تدعم هذا.
تذكر المنشورات على X ذئابًا ضارية، لكن هذه تفسيرات حديثة، وليست جزءًا من الأسطورة الأصلية.
قاتل متسلسل أم تورط بشري:
يتكهن البعض بأن قاتلًا بشريًا استخدم الوحش كغطاء، لكن أنماط الهجوم (مثل آثار المخالب والعض) وروايات شهود العيان عن حيوان كبير تتناقض مع هذا.
نظرية تدريب الإنسان للوحش (على سبيل المثال، نظرية ميشيل لويس الهجينة) ممكنة ولكنها تفتقر إلى الأدلة.
الأنواع المنقرضة أو غير المعروفة:
يقترح البعض أن الوحش كان بقايا من الأنواع المنقرضة، مثل الذئب الرهيب أو الميزونيكيد، لكن هذه الحيوانات انقرضت منذ فترة طويلة بحلول القرن الثامن عشر.
لا يوجد دليل وراثي أو جنائي يدعم هذه النظرية.
التأثير الثقافي والإرث:
وسائل الإعلام والفولكلور: أصبح وحش جيفودان رمزًا للبرية الجامحة والضعف البشري. وقد ألهم العديد من الكتب والأفلام والأعمال الفنية، بما في ذلك:
أخوية الذئب (2001)، فيلم أكشن خيالي من إخراج كريستوف جانز، يصور الوحش على أنه أسد يرتدي درعًا.
Teen Wolf (مسلسل تلفزيوني صدر عام 2011)، حيث كان الوحش مستذئبًا والخصم الأساسي في الموسم الخامس.
روايات مثل Hunting Grounds لباتريشيا بريجز وأغاني مثل "Bête du Gévaudan" لباورفولف.
الإرث المحلي: تحتضن منطقة جيفودان (لوزير الآن) الأسطورة، مع التماثيل (على سبيل المثال، ماري جين فاليه في أوفيرز، وجان شاستيل في مارفيجولز)، والمتاحف (على سبيل المثال، Musée Fantastique de la Bête du Gévaudan في سوجو)، ومحمية الذئاب، Les Loups du Gévaudan، التي افتتحت بدعم من بريجيت باردو في التسعينيات.
الأهمية التاريخية: تعكس القصة مخاوف القرن الثامن عشر، والإثارة الإعلامية، والتوترات بين المجتمعات الريفية والسلطة الملكية. كما تسلط الضوء على تحديات تحديد الحيوانات المفترسة دون أدوات الطب الشرعي الحديثة.
الخلاصة:
لا يزال وحش جيفودان لغزًا لم يُحل، والتفسير الأكثر ترجيحًا هو سلسلة من هجمات الذئاب التي تضخمت بسبب الخوف والخرافات والتغطية الإعلامية. وفي حين أضافت الفولكلور عناصر خارقة للطبيعة، تشير السجلات التاريخية إلى أن حيوانًا حقيقيًا، وإن كان غير عادي، كان مسؤولاً عن ذلك. وتظل الأسطورة قائمة كشهادة على الانبهار البشري بالمجهول وقوة سرد القصص.
د. سامر سيف الدين
كاتبخبرة في التدريس الأكاديمي في كليات الهندسة والإعلام والتربية لأكثر من 22 عاماً في التعليم العام والخاص والافتراضي. مدير ومصمم عدد من مواقع الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، أذكر منها موقع أيقونات للشخصيات الملهمة والمبدعة، وصفحة كشف التزييف على الفيس بوك وعدة حسابات ومواقع أخرى