أنت الآن تصوغ حكايتك في هذه الحياة وكاميرا التصوير توثق مسيرتك وتلتقط فيلمك الخاصّ فالضوء الأخضر مُفعّل فلما لا تبتسم؟ ابتسم وأدر مواقفك بحكمة، للأسف ليس أمامك إلا حياة واحدة فاجتهد لتتألق بها وتتميز فيها لتشع وهجًا ونظارة وأناقة. شاشة الكاميرا تتكون من عدة بكسلات صغيرة تكوّن الصور والمشاهد، أما فيلم حياتك فعبارة عن عدة مواقف، سلط الضوء على كل موقف بحياد ودقة، وابرع في تقديم الحكاية واعلم إن الأواني الفارغة تحدث ضجة أكبر من الأواني الممتلئة، فليس الاعتبار بمقدار الضجيج الذي تحدثه حياتك، بل بما تحتوي من مواقف مليئة بالحكم والجواهر.

لنضع أصابع يدك على معزوفات الواقع، ولنتدارس النوتة الواقعية باهتمام، لو انتشلك زائر الرحلة الأبدية وانقطع عملك من هذه الحياة، ما هي الإنجازات التي قدمتها؟ وهل أنت راضٍ عن حياتك؟ أم تحتاج لمزيد جهد لتنحت تمثال عطائك؟. لو دققت النظر في فصول حياتك ستجد فراغات لم تملأها بالشكل الجيد، وإليك الحكاية لتتضح لك الصورة، وقف دكتور جامعي أمام طلابه ووضع كرات البلياردو في وعاء فارغ، وقال: هل أمتلأ الوعاء؟، قالوا جميعهم: نعم، فاخرج لهم كيس صخور صغيرة وملأ فراغات الوعاء وقال: هل أمتلأ الوعاء؟، قالوا جميعهم: نعم، فاخرج لهم كيس رمل وملأ الفراغات في الوعاء، وقال: هل أمتلأ الوعاء؟، قالوا جميعهم: نعم، ثم أخذ قارورة ماء وسكبها في الوعاء ليسد الفراغات المتبقية.
إن هذه التجربة البسيطة تحثنا على دراسة أوقاتنا بعناية وهل بالفعل شغلناها بالتدابير الصحيحة وبالترتيب الأصح؟، لماذا لا نتفكر في خطة العمل، ونعيد ترتيبها بالأهم فالمهم، ثم نشغل وقت الفراغ بما هو مناسب؟ علينا مكافحة إهدار الدقائق المهملة، فهي أثمن رأس مال لدينا، علينا أن نعيد التفكير في إدارة أوقاتنا ومواقفنا الحياتية من أجل التصحيح للأفضل. يحكى أن صيادًا كان يلقي بالسمك الكبير في البحر ويحتفظ بالسمك الصغير، هذه الظاهرة أثارت بعض المشاهدين، فلما ألقى عليه السؤال أحدهم مستفهمًا، كانت المفاجأة في إجابته العصماء وهي أنّ المقلاة التي في حيازته لا تتسع إلا للحجم الصغير من السمك!!
هذه الحكاية الطريفة تكشف عن سذاجة البعض، ولكن ألا نقع نحن في ذات المطب؟ وفي أمثال هذه الفخاخ بصورة مختلفة؟ لماذا لا نوفر لنا مُخْرجًا ينتقد المشاهد اليومية التي نعيشها قبل انقضاء الفيلم الذي نصوّره؟، النقد الذي ننزعج منه كثيرًا، قد يميط اللثام لنا عن بعض عيوبنا، وقد نفيق على مواقف قاتلة نمارسها بشكل دوري، الملاحظات الأخوية نحتاجها بشكل مستدام لكونها تمثل دور صاعق الإفاقة، هل شاهدت ذبابة تروم الخروج من زجاجة نافذة مغلقة؟ حتى لو لم تستسلم هذه الذبابة ستوافيها المنية وهي تصارع الخروج، الأجدى بهذه الذبابة أن تبحث عن مخرج آخر، فقد يكون الباب مشرعًا ومفتوحًا وهي لا تعلم!
لننتقل لتجربة أخرى، وضع فأر في متاهة ووضع تحديدًا في زاوية بعيدة عن قطعة جبن، بذل هذا الفأر كامل المجهود حتى وصل لجبنته الشهية والتقمها، أعيدت هذه التجربة عدة مرات بوضع قطعة الجبن في مواطن مختلفة وكان الفوز حليفه في كل مرة، الخلاصّة أن الإصرار في مثال الذبابة ضرب من الجنون، وفي مثال الفأر مكسب وفوز، والحكمة المستقاة هي أنه علينا أن نتأكد أننا نزاول العمل الصحيح في المضمار الصحيح.
من هنا جاء دور أهمية إعادة التفكير في إدارة المواقف، ردود أفعالنا قد تكون خاطئة أحيانًا، وبعض العادات التي نمارسها قد تحتاج لتمحيص، فلماذا لا نخضع الأفعال للنقد؟، يتحسس البعض من تدخل الغير بشؤونه رغم أن هذا التدخل قد يكون قارب الانقاذ وطوق السلامة، فلماذا لا نتشبث بحزام الأمان؟ لقد قيل في الحكم: "هلك من ليس له حكيم يرشده"، وكثير منا هالك لفقدان هذا الحكيم المرشد، كثيرًا ما يكون دور الصديق كشف العيوب، إلا أنّ الصداقات بدأت تتقلص عدديًا، وغالبًا ما نفضل أن يلتزم هذا الصديق بقفص زنزانته ليبقى هو الصديق الصدوق الذي نهواه، لهذا عليه أن لا يتخطى حدودنا الجغرافية ومجالنا الجوي، حتى هذا الصديق المخلص بدى يلجم نفسه بلجام السكوت كي لا نتحفه بلقب معلب جاهز، مثل: متطفل، حشري، وتطول القائمة.
والسؤال الجوهري الذي نطرحه: كيف لنا أن نكتشف الأخطاء العميقة دون أن توضع تحت مجهر التدقيق والفحص؟ إن حياتنا لا تزال مستمرة وعدسة التصوير لا تزال ترصد العيوب المستدامة، فإذا أنفنا انتقادات الغير، فلنحذر التعجل والارتجال، ولنحسب المكاسب والخسائر،
قبل تنفيذ القرارات حتى لا تتوغل الكارثة.

عبدالعزيز آل زايد
كاتب وروائي سعوديعبدالعزيز حسن آل زايد، كاتب وروائي سعودي، من مواليد مدينة الدمام في عام 1979م، حاصل على (جائزة الإبداع) في يوليو 2020م، من مؤسسة ناجي نعمان العالميّة في بيروت في دورتها الـ18، بروايته (الأمل الأبيض)، آل زايد يحمل درجة البكالوريوس من جامعة الملك فيصل، والدبلوم العالي من جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل. روائي مهتم بالسّرديات التاريخيّة التخيليّة، ومؤلف شغوف بالكتابة، وهو يمارس مهنة التعليم في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، له الكثير من الكتابات على الصحف والمجلات الإلكترونية ومواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي المتنوعة.