
في قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ، تَقِفُ عَلَّاءُ، امْرَأَةٌ كَبُرَتْ سِنُّها وَاشْتَدَّتْ مُحْنَتُها، تَنْظُرُ إِلَى بُسْتَانِها الذَّابِلِ. لَقَدْ حَبَسَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا سَنَوَاتٍ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَاحِلَةً وَالأَشْجَارُ هَشِيمًا. النَّاسُ يَتَذَمَّرُونَ، وَالبَعْضُ يَهْجُرُ القَرْيَةَ، وَالْيَأْسُ كَالسَّحَابَةِ السَّوْدَاءِ تُظَلِّلُ قُلُوبَهُمْ.
لكِنَّ عَلَّاءَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً. فِي قَلْبِهَا نَبْعٌ لَا يَنْضُبُ مِنَ الإِيمَانِ. كَانَتْ تَرْفَعُ يَدَيْهَا إِلَى السَّمَاءِ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ وَتَدْعُو: "رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".
كَانَ جِيرَانُهَا يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا: "يَا عَلَّاءُ، أَتُصَلِّينَ لِسَمَاءٍ صَمَّاءَ؟ أَتَسْأَلِينَ أَرْضًا قَدْ أُعْقِرَتْ؟". فَتُجِيبُهَم بِهُدُوءٍ وَيَقِينٍ: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وَذَاتَ لَيْلَةٍ، بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَبَيْنَمَا هِيَ تَقْرَأُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، هَبَّتْ رِيحٌ لَطِيفَةٌ حَمَلَتْ فِي ثَنَايَاهَا عَبَقَ الأَمَلِ. لَمْ تَكُنْ رِيحًا عَادِيَّةً، بَلْ كَانَتْ كَنَسِيمِ الرَّحْمَةِ. وَقَبْلَ أَنْ تَغْلَقَ عَيْنَيْهَا، سَمِعَتْ هَاتِفًا فِي قَلْبِهَا يَقُولُ: "ابْحَثِي عَنْ نَبْعِ الْمَاءِ تَحْتَ أَصْلِ أَقْدَمِ شَجَرَةٍ زَيْتُونٍ فِي البُسْتَانِ".
غَدَتْ عَلَّاءُ فِي الصَّبَاحِ وَقَلْبُهَا يَخْفِقُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. الْتَجَأَتْ إِلَى الصَّبْرِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِرَبِّهَا ثُمَّ أَخَذَتْ تَحْفِرُ بِيَدَيْهَا تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الْعَجُوزِ. سَاعَاتٌ طَوِيلَةٌ وَهِيَ تَحْفِرُ، وَالْعَرَقُ يُغَطِّي جَبِينَهَا، وَالشَّكُّ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى قَلْبِهَا، لَكِنَّهَا كَانَتْ تَرُدُّهُ بِذِكْرِ اللَّهِ.
وَفَجْأَةً... انْفَجَرَتِ الْعُيُونُ!
لَمْ يَكُنْ مَاءً عَادِيًّا، بَلْ كَانَ نَبْعًا عَذْبًا زَلَالًا، يَفِيضُ بِغَزَارَةٍ لَمْ تَرَ مِثْلَهَا قَطُّ. الْمَاءُ لَمْ يُرْوِ الأَرْضَ الْقَحْطَاءَ فَحَسْبُ، بَلْ أَرْوَى قُلُوبَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِالإِيمَانِ. جَاءَ الْجَمِيعُ وَهُمْ يُكَبِّرُونَ وَيُسَبِّحُونَ، وَعَلَّاءُ وَاقِفَةٌ بِجَانِبِ النَّبْعِ، دُمُوعُهَا تَخْلِطُ مَاءَ وَجْهِهَا بِمَاءِ النِّعْمَةِ، تَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ".
عَادَتِ الْحَيَاةُ إِلَى الْقَرْيَةِ، لَكِنَّهَا هَذِهِ الْمَرَّةَ كَانَتْ حَيَاةً مُشَبَّعَةً بِالْيَقِينِ. لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ يَشْكُو الْجَفَافَ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ النَّبْعُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يَجِفُّ أَبَدًا. وَأَصْبَحَتْ عَلَّاءُ، لَيْسَتِ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَجَدَتِ الْمَاءَ، بَلِ الَّتِي ذَكَّرَتِ الْجَمِيعَ بِأَنَّ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْقَلْبَ الْمُؤْمِنَ بِإِذْنِ اللَّهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْبِتَ الْحَيَاةَ مِنْ صَخْرَةِ الْيَأْسِ.
فقُوَّةَ الْإِيمَانِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَمَانٍ فِي الْقَلْبِ، بَلْ هِيَ صَبْرٌ عَلَى بَلَاءٍ، وَسَعْيٌ لِأَمَلٍ، وَيَقِينٌ بِأَنَّ الْفَرَجَ آتٍ لَا مَحَالَةَ. وَأَنَّ الْيَأْسَ هُوَ الْجَفَافُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ النَّبْعُ الَّذِي لَا يَنْضُبُ.