زمان، في القرن التاسع عشر، وقبل انتشار تقنيات الصوت، كان إحياء المناسبات في مصر مقصورًا على فرق عزف تستخدم الآلات النحاسية تُسمّى (فرقة حسب الله).
وكانت عبارة عن فرق شعبية تعزف في الشوارع والميادين والحارات إحياءً للمناسبات الشخصية، مثل الزواج أو أعياد الميلاد أو نجاح طالب أو افتتاح محالّ جديدة، وفي بعض الأحيان كانت تعزف موسيقى حزينة في الجنائز أيضًا لإخبار الناس بوفاة شخصية هامة أو تكريمًا له.
وكانت تلك الفرق تستخدم آلات نفخ مثل البوق والسوزافون والقرن، مترافقة مع آلات إيقاعية مثل الطبلة والدفوف والصاجات.
وفرقة حسب الله كانت في البداية فرقة واحدة تأسست على يد الشاويش حسب الله عام 1860، ثم أصبحت فيما بعد لقبًا يُطلق على جميع فرق الموسيقى المشابهة في شارع محمد علي، وهو شارع مصري شهير بمقاهي الفنانين والعازفين والراقصات، وورش تصنيع الآلات الموسيقية.
وكانت كل فرقة تضم مجموعة من عشرة عازفين أو أكثر، يرتدون زيًّا موحّدًا، وهو غالبًا سترة بنية أو صفراء لها أزرار ذهبية مقفولة حتى الرقبة، مع طربوش أحمر.
ومع تزايد شهرة تلك الفرق الموسيقية، أصبح من الصعب الإيفاء بجميع الطلبات في الوقت نفسه، ومن المؤكد أن كل صاحب فرح يريد أن يفتخر أمام الناس بأنه استأجر فرقة حسب الله مكوّنة من عشرة عازفين أو أكثر، فلجأت الفرق إلى حيلة لحل تلك المشكلة، وهي أن انقسمت كل فرقة إلى فرق صغيرة مكوّنة من ثلاثة أو أربعة عازفين على الأكثر، وهم العازفون الأساسيون الذين سيقومون بالغرض المطلوب في أضيق الحدود.
ثم إنهم يستعينون بستة أشخاص إضافيين لإكمال الشكل العام، عبارة عن كومبارس ليس لديهم أي خبرة في الموسيقى، فقط يرتدون الزي ويمسكون بالآلات ويلفّون الأبواق حول ظهورهم، ثم يتظاهرون بالعزف دون أن يفعلوا شيئًا في الحقيقة.
وكانت تُطلق على هذه الوظيفة (لابس مزيكا)، وكان متعهدو الفرق يمرّون على مقاهي ممثلي الأدوار الثانوية في شارع عماد الدين، ويسألون روّادها السؤال الشهير حينها:
(تلبس مزيكا؟)
وفي هذا الزمن الذي نعيشه أصبحنا جميعًا في بلادنا بلا اسثناء "لابسين مزيكا"، فالكتّاب والمفكرون والمثقفون غير مسموح لهم أن يقولوا غير ما سيرحب به المجتمع.
أي فكرة مُعلّبة وسابقة أصبحت أفكارًا لا يمكن المساس بها، وغير مسموح أن تقول رأيًا جديدًا أو مخالفًا للتيار، عليك فقط أن تتظاهر بأنك تقدّم شيئًا جديدًا، وفي الحقيقة أنت تردّد ما يقوله الجميع.
ونحن نسأل: لماذا تأخرنا؟
لقد تأخرنا لأننا أصبحنا أصحاب الفكر الواحد والرأي الواحد والاتجاه الواحد، وإذا تجرّأ أحد وأشار إلى رأي جديد أو انتقد فكرة خاطئة مستقرة، ننبذه ونقمع رأيه أو نمنعه من نشر مقاله أو كتابه، ونواجهه بثقافة الإلغاء والإقصاء، وفي بعض الأماكن ننفيه أو نلقي به وراء القضبان.
لقد تأخرنا عن ركب الدول المتقدمة لأننا لم نعد نسمع إلا أصواتنا فقط.