استمرار على المنهج الفكري #الكواكبي في مقاومة السطحية وتحدي التفاهة التي لا تبقي و لا تذر، نقتحم، في هذا المقال عالم الهندسة المدنية والبناء لنشيد جسور الأمانة ومقاومة الهشاشة و نطلق نداء الهندسة في زمن تيار التفاهة الجارف. إن الأصل الذي ارتضيناه لأنفسنا نحن بني البشر، كل من موقعه، هو أن نكون قوامين على الأرض، وحراساً لجودة الحياة، لكننا نصطدم اليوم بتيار جارف يهدد منظومة قيمنا، لا يقل خطراً عن التآكل الكيميائي للإسمنت أو اهتزاز التربة تحت الأساسات، إنه تيار التفاهة والسطحية والغوغائية والسلبية، الذي يتغلغل بهدوء داخل منظومتنا، مهدداً بتحويل صروح الوطن إلى مجرد هياكل هشة. هذه المخططات الهدامة لا تستهدف الحديد والخرسانة فحسب، بل تستهدف المبادئ والفطرة النقية التي يقوم عليها كل بناء أمين. تيار التفاهة في مجال البناء ليس مجرد حديث نظري، بل هو واقع مرير نعيشه في كل محاولة للتنازل عن الجودة من أجل الربح السريع، أو التهرب من الرقابة تحت ضغط الوقت او خوفا على تآكل الميزانية المرصودة. ولعل الأمر يتضح جليا من خلال ما يلي: ⚠️ السطحية في التصميم البنيوي: التغاضي عن عوامل الأمان الحاسمة (Factor of Safety) أو تجاهل متطلبات الاستدامة البيئية، بحجة التوفير. هذا يمثل هجوماً مباشراً على أخلاق المهنة، لأن النتيجة الحتمية هي منشآت ضعيفة لا تقاوم الأحمال المتوقعة ولا تصمد أمام عامل الزمن. ⚠️ الغوغائية في التنفيذ: قبول مواد بناء لا تفي بالمواصفات المطلوبة، أو السماح بالتجاوزات في نسب الخلط، لضمان إنهاء المشروع "بأي ثمن". هنا، تهتز منظومة قيم الصدق والأمانة، ويتحول الموقع من ورشة بناء إلى ساحة لتمرير النقائص و العيوب. ⚠️ السلبية تجاه المبادئ: إحجام المهندس أو المشرف عن الإبلاغ عن المخالفات، خوفاً من الصدام أو خسارة العقد. هذه هي الذروة في تحقيق أهداف التيار الجارف: شلّ الإرادة وتفكيك الأصل الذي هو: المسؤولية عن سلامة الأرواح والممتلكات. و لتوضيح الصورة اكثر إليكم هذا المثال الميداني: عندما يتم تقليل عمق أساسات جسر استراتيجي أو خفض كثافة تسليح الأعمدة في مشروع سكني؛ فإننا نكون قد انتصرنا لهذا التيار الهدم و التخريب. هذا الجسر أو ذلك المبنى سيقف لبعض الوقت، لكنه يحمل في داخله بذور انهيار كامن، هو في حقيقته انهيار للمبادئ قبل الخرسانة تذويب للقيم قبل انصهار أعمدة الصلب و الحديد. فالمختبر المتخصص الذي يصرّ على الفحص المخبري الدقيق للمواد ورفض المواد المغشوشة، هو من يواجه الغوغائية ويُعلي من شأن المبادئ. إن وصفة النجاة للذات والانتصار للقيم المثلى تبدأ من إعادة التأسيس على الأصل والفطرة النقية للمهندسين والتقنيبن و المقاولين على حد سواء، والتي هي الالتزام المطلق بالمعايير، و تحصين الذات والمبادئ ( يقابله مقاومة المواد Résistance de materiaux): على المسؤول أن يرى في ميثاق البناء ليس مجرد كتيب قواعد، بل وثيقة شرف تحصّن العِرض والأخلاق. فالالتزام بأقل نسبة مياه إلى أسمنت (w/c ratio) ليس أمراً تقنياً فحسب، بل هو تعبير عن الأمانة التي تضمن متانة تدوم لعقود Durabilité و هو ما يمثل بناء الحصانة على الفطرة النقية السليمة. إن متانة بناء بيتنا/الوطن واستقراره يقوم في الأصل على تثبيت الأساسات و يعتمد بشكل مباشر على استقرار منشآتنا نحن هنا نبني على فطرة نقية ترفض التغرير أو الغش، لأننا نعرف أن كل شروخ في البناء هي شروخ في المجتمع لأن الانتصار الحقيقي هو في تصميم منشآت لا تكتفي بـ "مجرد الوقوف"، بل تضمن الأمان المطلق وتستوعب المستقبل. هذا هو دورنا في دحض الأجندات الهدامة التي تريد لنا الرضا بالحد الأدنى من الجودة و تهدد بنيان وطننا و تصيبه في مقتل. إن مسؤوليتنا ك "بنائين" مهندسين و تقنيين و مقاولين، تتجاوز حساب الكميات ورسم المخططات, إنها مسؤولية فكرية وأخلاقية قبل أن تكون تقنية. فإذا كان التيار الجارف يهدف إلى تدمير القيم عبر التفاهة، فإن سلاحنا هو العمق، والدقة، والجودة اللا مُساوَم عليها. يجب أن نقف جميعنا في وجه هذا التيار، لأننا نعلم أن كل منشأة هي مرآة تعكس مستوى قيمنا، لنجعل من كل عمود نرفعه، وكل جسر نشيده، دليلاً على الانتصار للقيم المثلى، وتحصيناً لـ الفطرة النقية، ودرعاً واقياً يستعصي على كل ما يعكر صفو عالمنا ويدنسه، ف*البناء الحقيقي هو بناء الإنسان قبل تشييد البنيان*.
منعم #الكواكبي هندسة بناء و فكر إنساني