عُدة الصاعدين في منازل الطالبين

صورة

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ،

الحمدُ للهِ العليِّ الحكيمِ، الذي هدى السالكين إلى سواءِ النهجِ القويمِ، ووفّق من شاءَ من عباده لاعتلاءِ مراتبِ العلمِ والفهمِ، والصلاةُ والسلامُ على نبيّه الكريمِ، سيدِ ولدِ آدمَ بلا خصيمٍ ولا نظيرٍ ولا لئيمٍ، وعلى آله وصحبه ذوي النهى والعزمِ والهِمَم.
أما بعدُ؛

فإن طريقَ العلمِ طريقٌ لا يُدرَكُ إلا بمجاهدةِ النَّفسِ وكسرِ السَّقمِ، ولا يُنالُ مجدُهُ إلا لمن تطهّر قصدُه من شوائبِ الوهمِ، وثبّت قلبَه على الصبرِ، وأعدّ له من الأسبابِ ما يمهّد للارتقاءِ في رُتَبِ العلماءِ وأربابِ الحِكَم، وهذا نص في عُدَدِ الطّالبِين مُقَفّىً بحَرف المِيمِ لِذَوي البَصائِر والهِمَم.


فأولُ العُددِ: إخلاصُ النيّةِ وتصحيحُ القصدِ في كلِّ علمٍ وعملٍ يُرتَسَم؛

فالنيةُ هي المفتاحُ الذي يُفتَحُ به بابُ الفَهْمِ، وهي السراجُ الذي يُضيءُ ظُلماتِ الوهمِ، ومن صَفَت نيتُه أُشرِبَ قلبُه نورَ الحكمِ، ومن خالطها رياءٌ تقطّع به الطريقُ وانهزم.وقد قال تعالى: {مخلصين له الدين}، فالإخلاصُ أساسٌ لا يُستغنى عنه، وركنٌ لا ينهدم.


وثانيها: علوّ الهمةِ وثباتُ العزمِ وحسنُ المضاءِ في كلِّ مهمٍّ مُهمَم؛

فالعزمُ هو جناحُ الطالبِ، ومن لا جناحَ له لا ينهضُ من مستنقعِ السَّقَمِ.وقد قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}، فمن جاهدَ نال، ومن توانى خابَ وانهزم، ولا يثبتُ على طريقِ العلمِ إلا ذو همةٍ تصبرُ على اللأواءِ وتغلبُ الألم.


وثالثها: ملازمةُ الدرسِ، وإدامةُ البحثِ، ومقارعةُ المعضلاتِ بالفِكْرِ المُحكَم؛

فلا يُنالُ العلمُ بحفظٍ مجردٍ إن لم يصحبه فهمٌ، ولا تُدرَكُ غاياتُه بقراءةٍ  لا تعقّبها مدارسةٌ ولا نِقَم.والعلمُ يأبى أن يعطيكَ بعضَه حتى تعطيه كُلّك، فكيف بمن أعطاه بعضًا من بعضٍ ثم زعم أنه حاز القسم؟


ورابعها: الأدبُ، وهو تاجُ الطالبِ، ولباسُ العالمِ، وزينةُ الطريقِ وبهاؤه وشيمُهُ التي لا تَنهزِم؛

فبالأدبِ تُرفعُ المراتبُ، وتُحمَدُ المذاهبُ، ويستقيمُ الخُلقُ القويمُ، ويُعرَفُ الأدبُ في توقيرِ العلماءِ، وخفضِ الجناحِ، وحسنِ السَّمتِ، واجتنابِ الشغبِ والزَّلم.


وخامسها: الصبرُ الذي هو عدةُ السالكين، وركنُ المجتهدين، وزادُ من لا زادَ له في الطريقِ الطويلِ وعُتْمَةِ الظُّلَم؛

فلا ينهضُ إلى العلمِ من كَلّ، ولا يبلغُ الذروةَ من مَلّ، ومن صبرَ ظفرَ، ومن جزِعَ انحطّ وانهدم.وقد قال النبي ﷺ: «طلبُ العلمِ فريضةٌ»، والفريضةُ لا تُنالُ إلا بمكابدةِ التعبِ والهمم.


وسادسها: التوكلُ على اللهِ، وهو سندُ الطالبِ إذا زلّت الأقدامُ، وعضُدُ السائرِ إذا اشتدّت الآلامُ، وركنٌ متينٌ لا ينثلم؛

فإذا صدق العزمُ وصحّ القصدُ وجاء التوكلُ، انفتحت أبوابُ العلمِ، وتيسّر ما كان يُظنّ أنه لا يُكرَم.قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله}، فهو نعمَ المعينُ إذا أُظلِم.


وخاتمةُ القولِ وخلاصةُ الحكمِ:لمن أراد بلوغَ الذرى، وارتقاءَ السنام، وتحقيقَ المقامِ الذي تُرفَعُ فيه الدرجاتُ وتُخطَمُ به الظُّلَم، هذه عدّتُك، فاستمسِك بها، ولا تُضِع منها شيئًا، فبها تُفتَحُ مغاليقُ العلمِ، ويُستنارُ القلبُ، ويُشرَقُ الفهمُ، ويُزادُ المرءُ حكمةً ونِعَم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

شرح بعض الكلمات في سياق ورودها: 

اللأواء: تعني البلاء الشديد، الشدة والضيق.

الزّلَم: الخطأ، يقال زلم الرجل إذا أخطأ.

لا يَنثَلِم: بمعنى لا ينشق، مأخوذ من فعل لثم، وهو بمعنى انشق. في سياق الكلام: ركن متين لا ينثلم. 

كتبه العبد الضعيف: مصطفى اعتاني.

📚 المراجع

تحميل كتاب بيان فضل طلب العلم تأليف عبد العزيز بن داخل المطيري pdf

تحميل كتاب بيان فضل طلب العلم pdf الكاتب عبد العزيز بن داخل المطيريبيان فضل طلب العلم : تضمن هذا الكتاب بيان أوجه فضل العلم، الأدلة على فضل العلم وأهله، الآثار المروية عن السلف الصالح في فضل العلم، المؤلفات في فضل العلم، الفرق بين العلم النافع والعلم غير النافع، أقسام العلوم الشرعية، حكم طلب العلم، وجوب الإخلاص في طلب العلم، وجوب العمل بالعلم، معالم المنهج الصحيح لطلب العلم.تحميل كتاب بيان فضل طلب العلم PDF - عبد العزيز بن داخل المطيريهذا الكتاب من تأليف عبد العزيز بن داخل المطيري و حقوق الكتاب محفوظة لصاحبها

تصفح المرجع ↗

ـ صيد الخاطر، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت ٥٩٧هـ)، بعناية: حسن المساحي سويدان، الناشر: دار القلم – دمشق، الطبعة: الأولى ١٤٢٥هـ - ٢٠٠٤م.

ـ الاقتراح في بيان الاصطلاح، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد (ت ٧٠٢هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.

ـ كيمياء السعادة، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت ٥٠٥هـ)، والكتاب هو: مقطفات مترجمة عن الأصل الفارسي، والأصل: كتاب اسمه كميائي سعادات في مجلدين كبار وهو ترجمة تقريبا لكتابه الإحياء مع تغير بسيط.

ـ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١هـ)، المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة، ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦م.