حين يتكلم الركام: صمت الهدنة في مدينة لم تعد كما كانت

حين يتكلم الركام: صمت الهدنة في مدينة لم تعد كما كانت في غزة، لا يشبه الصمت الهدوء، فحين يسكت القصف، تبقى الأصوات الأخرى أكثر ضجيجاً: أنين الجدران المتصدعة، وبكاء الأطفال المكتوم في أحضان أمهاتهم، ونبض المدينة الذي يحاول أن يتذكّر كيف كان يعيش قبل أن يلتهمه الركام.

الهدنة "وقف إطلاق النار"... كلمات تتردّد كثيرًا في نشرات الأخبار، لكن وقعها في قلوب الغزيين مختلف، فهي ليست وعدًا بالأمان، بل استراحة ثقيلة من حرب لم تنتهِ بعد، هدنة تشبه تنفّساً على حافة الغرق، لا يعرف صاحبها إن كان سيخرج إلى برّ الأمان أم سيجرفه الموج مجدداً.

وجوه تبحث عن الأمان في مدينة تغيّرت ملامحها

في الأزقة المهدّمة، ترى الحياة تحاول أن تعود بخجل، نساء يجمعن بقايا أثاث بين الأنقاض، أطفال يبحثون عن ألعابهم القديمة تحت الحجارة، وشيوخ يجلسون أمام بيوتهم المدمّرة كمن يراقب ذاكرة تتساقط أمامه، كل شيء تغيّر، حتى الهواء صار أثقل، وملوّثًا برائحة البارود، ومثقلًا بذكريات لا تُنسى.

ولكن رغم كل ذلك، لا تزال غزة تنبض بالحياة، فالناس هنا يعرفون كيف يحولون الرماد إلى طحين، والدمعة إلى ابتسامة. في عيونهم خوف لا يُخفى، ومعه إصرار لا يُكسر، وكأنهم يقولون: “نحن لا ننتظر الهدنة من أحد، نحن نصنعها بصمودنا.”

 هدنة هشة... وسكون متوتر

يسمّونها “هدنة إنسانية”، لكنها في الحقيقة مساحة زمنية للتوتر، فلا أحد ينام مطمئناً، وكل ليلة، حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار، تبقى الأمهات يقظات، يراقبن السماء بعينٍ والهواء بأخرى، يخشين أن يتحوّل الهدوء إلى فخّ جديد.

بين من يرحّب بالهدنة ومن لا يثق بها، يبقى الناس في المنتصف: متعبون من الحرب، لكن خائفون من السلام الزائف، وفي المقاهي القليلة التي نجت، يتحدث الشباب عن "العودة إلى الحياة" وهم ينظرون إلى هواتفهم بعيونٍ فارغة؛ فالحياة نفسها لم تعد كما كانت، ولا المدينة كذلك.

صمت العالم وصوت الركام

حين كانت الصواريخ تمزق السماء، كان العالم يصرخ ويكتب ويٌدين أما الآن، في زمن الهدنة، خفتت الأصوات وكأن الصمت هو الدواء، لكن هنا، في غزة، الصمت موجع أكثر من الحرب، لأن الركام نفسه يتكلم؛ يتكلم عن أحلامٍ كانت هنا، عن بيوتٍ احتضنت الضحك، عن مدارسٍ كانت تزرع الأمل.

العالم يرى الصورة النهائية فقط، لكنه لا يسمع الأصوات الخافتة تحتها، لا يسمع قلب أمّ تنتظر ابنها الذي لم يعد، ولا يرى يد طفلٍ تبني قلعة من غبار بيتها المهدّم، فالهدنة بالنسبة لهم “إنجاز سياسي”، لكنها بالنسبة لغزة “استراحة من الألم لا من الوجع.”

مدينة لم تعد كما كانت

ربما ستُعاد الإعمار، وستُفتح الطرق، وتُضاء الشوارع من جديد؛ لكن من يعيد بناء الروح؟ من يعيد للمدينة دفء أصواتها الأولى قبل أن يبتلعها الرماد؟

غزة اليوم ليست كما كانت، بل هي أكثر وجعاً، لكنها أيضاً أكثر وعيًا، أكثر صلابة، وأكثر قدرة على النهوض، وربما في هذا التناقض تكمن معجزة المكان: أن تنهض من تحت الركام لتقول للعالم: "ما زلت هنا، أتنفس رغم الصمت، وأحلم رغم الهدنة."