الوعي العاطفي: الجسر بين طفولة لم تندمل ونضج لم يكتمل*

صورة

في أحد المساءات، داخل المقهى المعتاد، جلسا معًا لكن المسافة بينهما كانت أكبر من أي وقت مضى. صمتٌ ثقيل يخفي وراءه عالمًا من المشاعر غير المعلنة. هي ترفع فنجان قهوتها بترقب، بينما هو يغوص في شاشة هاتفه هربًا من مواجهة لا يعرف كيف يخوضها. مشهدٌ يختزل علاقةً يعيشها كثيرون: لقاء الأجساد وتباعد الأرواح.

*لقاء الأطفـــال في أجساد الكبـــار*

هنا تكمن المفارقة؛ كلاهما ناجح في عمله، متعلم، ويحمل مسؤولياته في الحياة. لكن في أعماق كل منهما، ما يزال ذلك الطفل الصغير الذي لم يجد من يحتضن جراحه. هي تبحث عن حب يعوضها عن دفء لم تعرفه، وهو يبحث عن امرأة تملأ فراغ أمه في حياته. يلتقيان في منتصف الطريق، حاملين معهما جراحًا غير مُندملة، وكل منهما يبحث في الآخر عن العلاج.

*النضج العاطفي: أن تعي ذاتك وأنت تحب*

العلاقة الناضجة لا تُبنى على الحب وحده، بل على الوعي بالذات أولاً. حين يظل الإنسان عالقًا بين احتياجات طفولته المتعطشة ووعيه الناقص، يتحول الحب من مساحة للنمو المشترك إلى ملاذٍ يبحث فيه عن إكمال نقصه. نحتاج الآخر ليشعرنا بأننا موجودون، لا لأننا اخترنا مشاركة الحياة بصدق ومسؤولية. وهنا تبدأ المعاناة.

*الكارثة الهادئة: جيلٌ يعيد إنتاج أزمته*

نعيش اليوم في زمن المفارقة: نبدو ناضجين في مظهرنا، لكننا مشتتون في دواخلنا. نتقن التحدث بلغة الحب والعاطفة، لكننا نفتقر إلى وعي حقيقي باحتياجاتنا وخوفنا. نتعامل مع العلاقات كما لو كانت مشاريع للاستثمار العاطفي، نقيمها بمعايير النجاح والفشل، متناسين أنها في جوهرها رحلة للتعرف على الذات قبل الآخر.

كم من قصة حب انتهت ليس بسبب انعدام المشاعر، بل لأن النضج العاطفي كان غائبًا! وكم من شخص ضاع بين العلاقات لأنه لم يتعلم أولاً كيف يحتوي طفله الداخلي ويصغي إليه؟

*العلاج: أن تحتضن طفلك الداخلي*

الطفل الذي بداخلنا يريد من يهدئ روعه، لكن الراشد هو من يجب أن يتعلم كيف يحتضن هذا الطفل ويرمم جراحه. حين نصل إلى لحظة السلام مع ذواتنا، يصبح الحب اختيارًا وليس حاجة، ومشاركة وليس تعويضًا. عندها فقط نستطيع أن نحب دون توقع، ونتقبل دون شروط، وننمو معًا دون خوف.

*الوعي.. ذلك الجسر الطويل*

بين طفولتنا التي تحمل الألم ونضجنا الذي لم يكتمل، يقف الوعي جسرًا لا بد من عبوره. جسر لا يُبنى بالكلمات الرنانة، بل بالصدق مع النفس والمواجهة الشجاعة للذات. من لم يعبر هذا الجسر، سيظل يدور في حلقة مفرغة، يعيد نفس النمط من العلاقات بأوجه مختلفة، حتى يتعلم أن الحب لا ينضج إلا بقدر ما ينضج الإنسان نفسه.

فالنضج العاطفي، في النهاية، لا يرتبط بالعمر، بل بالوعي. وهناك كثيرون كبار في السن، لكنهم لم يتعلموا بعد كيف يصغون إلى أنفسهم، أو كيف يواجهون وجعهم القديم. والعلاقات ما هي إلا اختبار حقيقي لمدى وعينا، وليست محض مشاعر عابرة. فإذا كبر الوعي، كبر الحب معه. وإذا توقف، سنظل نعيد نفس الدروس إلى أن نتعلم أن الحب ليس سدًا للنقص، بل رحلة نحو النضج والسلام الداخلي.

وعندئذ فقط، ندرك أن الحب الحقيقي لا يوجع، بل يعلّمنا، ويوسع آفاقنا، ويرشدنا إلى أنفسنا قبل أي شخص آخر.