الوردة الحمراء والنطاسي


أمثولة الوردة الحمراء والنطاسي 

الإبداع في اختيار عناوين الكتب، والإبداع في المقدمات، من براعة الاستهلال التي تجذب القارئ إلى الكتاب. هل جرّبت جمع عناوين الكتب وتصنيفها؟ الكتب عن البحر، عن السحب، عن القهوة...

الإبداع فى عناوين الكتب والمقدمات وتصنيفها 

وهنا أقصد عناوين الكتب وليست المواضيع. ستجد متعة جديدة في القراءة والربط بينها، وستجد اختلافًا وتنوعًا بين موضوعات الكتب.

أما عن ربط كل كتاب باسمه، فهذا تحليل ثريّ وعميق.

لا أشكّ لحظة واحدة أن مقدمات الكتب تؤسرني، وتحدد ما إذا كنت سأقرأ الكتاب من أول وهلة أم سيكون في طيّ النسيان.

الأديب المبدع عدي الحربش 

نحن هنا أمام كاتبٍ مبدعٍ، يغوص في التاريخ وقصصه وأشخاصه من الماضي، لكنه يبدع لنا القصة والخيال والرمز بأسلوب عصري متناغم وسردٍ قصصيٍّ بارع. الحربش يسحبك من يدك ويأخذك إلى عالمه، بل إلى عالم القصة والتاريخ في وقته وزمانه، فترى وتركض  وتلهث وتصعد وتسقط، وكأنك أنت بطل الرواية. الحربش، الطبيب الأديب السعودي، يجري في دمه حب الأدب، و«النطاسي والوردة الحمراء» إحدى إبداعاته مجموعة قصصية ، نقابل فيها شخصيات تاريخيةً متنوعة زرياب، والمتنبي وحافظ الشيرازي ومجنون ليلى ، وسليمان القانوني والحاكم بأمر الله ، و ابن النفيس وجيوردنو برونو ، وزعماء قبائل كالشيخ راكان ابن حثلين .

مغامرة النطاسي فى المقبرة

لن يدعك الحربش تنام بهدوء، يقلق منامك ويسهد ليلك في مغامرةٍ شيّقةٍ لن تنساها ولن تغادرك. ولذلك، سأقصّ عليكم قصة «النطاسي والوردة الحمراء»، لأن تلك القصة البديعة لم تغادرني، ولم أغادرها. ظللت أفكّر فيها، وأقلّب أغصانها، وأتصفّح أوراقها، وأكرّر مطالعتها.

تخيل لو لم نعرف مسار الدورة الدموية حتى الآن

تخيلْ أننا في زمنٍ لا نعرف فيه كيف يصل الدم إلى القلب، وكيف يغادره. هنا نجد «أبا الحسن» وصديقه «القاسم» يتسللان إلى المقابر ليلًا، برغم صدور منشور من الدولة العثمانية يمنع نبش المقابر. لكن أبا الحسن يريد أن يعرف: كيف يسري الدم في عروقنا؟ كيف يدخل القلب ويغادره؟ وهل للرئتين فيه دور ونصيب؟ وفي غمضة عين، وبين المقابر ليلًا، يتتبع الجنود الصديقين «أبا الحسن» و«القاسم» النابشين قبور اليهود لمعرفة سر الدورة الدموية. وفي لحظة، يقفز القاسم من السور، فيندق عنقه وينقطع نفسه! يهمّ أبو الحسن أن يتركه خوفًا من جنود السلطان، ولكن تختفي آثارهم. فيأخذ صديقه إلى الطاولة في قبو منزله، ويفتح قميصه، ويبدأ العمل ليعرف السرّ. ترقد بجانبه  زوجته فاطمة المريضة ، التي يحبها ويرى في عينيها الجمال والحياة. كم هي جميلة! شاحبة، هزيلة، مريضة بالقلب، ولا أحد يعرف سرّه. متى سيُحل اللغز؟ ومتى نعرف دروب الدم فيك أيها القلب الدامي الأحمر القاني؟

لا يستطيع الحياة دونها؛ فكيف يحيا إذا فارق ضيُّها دنياه؟

سحر الدلالة الرمزية في الوردة الحمراء

تتشكل الوردة الحمراء في القصة تارةً بوردةٍ حمراء على باب الدار، لا يُعرف من أين جاءت ومتى أزهرت. يقطفها ويهديها لزوجته فاطمة. تقلب فاطمة الوردة برقة ورفق، فهي أول مرة ترى هذه المخلوقة الرقيقة بين يديها.

يأخذك الرمز بسحره؛ فلا تعرف من هي الوردة الحقيقية: هل هي زوجته، صاحبة القلب الأحمر القاني الهزيل المريض؟ أم الوردة الحمراء ذات البتلات الحمراوات  الرائعات المزهرات؟ ويظل المشهد لم يفارق الذاكرة: فاطمة الرقيقة، وفي يدها الوردة الحمراء. لا تدري من فيهما الأجمل والأرقّ، أم أنهما رفيقتان ضلّتا الطريق وتلاقيا بعد غياب .

القلب الدامي والدم القاني والحب الطاغي 

القلب الدامي والدم القاني والحب الطاغي  ما أكثر  الشبه بينهم فالقلب يتدفق بالحب والدم والحب والدم يسكنان القلب والدم يسري ليظل القلب ينبض بالحب . تزور الوردة الحمراء أبا الحسن في المنام، فيشقّ غصنها من البداية إلى النهاية، تمامًا كما يفعل في شقّ الجثث لتشريحها ومعرفة أسرار الطب. لكن هنا، يتساقط الدم من الوردة! ولم تكن الوردة في المنام إلا زوجته...

توظيف جمال الصورة في اللون الأحمر فى الوردة والدم والقلب 

يلعب عدي باللون والدم الأحمر؛ يتساقط مرة دم القاسم، تلميذ أبي الحسن بطل الرواية وزوج فاطمة، ومرة دم الوردة الحمراء، ومرة الدم المتساقط على أعتاب داره، إثر سحبه لصديقه وتلميذه إلى القبو وغرفة الطب والتشريح والبحث.

معاناة الأطباء وابن النفيس لمعرفة سر الدورة الدموية

يقبض الجنود على أبي الحسن، فيودَع السجن، ثم يأتي الإفراج عنه بشرط عدم نبش القبور وتعيينه طبيبًا لسلطان القصر. يركض أبو الحسن ليبشّر زوجته، فيجدها جثة هامدة لا تحرك ساكنًا، وبجانبها الوردة الحمراء. تنهار دموعه كأنها دماء تفجّرت، ويعلو شهيقه، ثم يأخذها إلى القبو ويبدأ العمل. فإن كانت زوجته قد فارقت الحياة، فمن أجل ملايين البشر سأبحث  حتى أعلم سرّ النبض وسرّ الحياة. وهكذا انتهت قصة النطاسي والوردة الحمراء.

تخيلْ لو لم نكن نعرف سرّ الدورة الدموية! تخيل كم المعاناة التي عاناها ابن النفيس وغيره  من النطاسيين الأطباء المهرة لمعرفة سرّ تدفق الدم من القلب وإليه.

الإبداع في الرواية التاريخية بطريقة عصرية حديثة 

يغوص بنا الحربش في القصة التاريخية، لكنه يضفي عليها من روحه وخياله وحواسه، ويأخذك إلى عالمٍ ليس بالقديم ولا بالحديث. لكنه يأخذني إلى داخل قلبي ونفسي ووجداني وشعوري.

شكرا لك ابن النفيس .

شكرا لكل طبيب بارع أمين.

  شكرا عدي الحربش إيها  الأديب المبدع.