ناجي العلي الحاضر الذي لن يغيب

أمل علي
كاتبة
نشرت:
وقت القراءة: دقائق
ناجي العلي الحاضر الذي لن يغيبناجي العلي الحاضر الذي لن يغيب

قُتِل الحديث بحثًا في مَن وراء مََقتل ناجي العلي، حتى ذابت الحقائق في غياهِب الدوامات ولكنّا نُوقن أنّ العُظماء لا يرحلون، فقط يذهبون إلى السماء في استراحة مُحارب، ومِن الأعلَى ينثُروا على الأرض رذاذ الأثر، علّنا نُدرك ما يقصدون، وهذا هو حال "ناجي العلي" حين سافَر إلى ما بعد حدود السماء، وترك لنا أثرهُ على الأرض، في "حنظلة" ذلك الصبيّ الاستثنائي الذي يرفُض أن يكبَرُ قبل أن تعود فلسطين إليه كاملًة، وتملأ أغصان الزيتون، ورائحة الياسمين الأجواء والأوطان، تُرى متى يكبرُ حنظلة؟!

ناجي العلي رمز النضال والصّمود الفلسطيني

في مُخيّم عين الحلوة أدركَ ناجي العلي أول خطوات النضالفي مُخيّم عين الحلوة أدركَ ناجي العلي أول خطوات النضال

هناك في قضاء الجليل بقرية الشجرة ولِد الصبيّ ناجي العلي، وفقط بلغ عمره العَشر سنوات، فاجأته الأقدار بالشتات، حيث وجد نفسه لاجئًا مع عائلته في الجنوب اللبناني، حيث قام باحتوائه كالكثير من أبناء فلسطين آنذاك "مخيّم عين الحلوة"، حيث كان مغعمًا بمظاهرات الشباب ومواجهاتهم الضارية ضد الاحتلال، وهنا وجد ناجي نفسه في مقدمة المظاهرات يتفاعل ويصرُخ نبضهُ بحُلم العودة، بينما لم يسَع صدرهُ كمّ الوجع على أرضهِ المسلوبة فاستعانَ بريشته في التعبير عمّا يشعُر به، فانطلق في رسوماته السياسيّة الساخرة من كلّ ما يدور حوله، وتدافعت سجون اسرائيل ولبنان إلى اعتقاله فما كان منه سوى أن يُسجّل هويّته الفلسطينية، وأوجاعه على جُدران كلّ سجن يمُرّ به، وكلما تحرّر من سجنه، كان ينطلق بريشته إلى بيوت المخيّم كي يرسُم على جُدرانها مواقفه من قمع الحرّيات، وفضائح جرائم الاحتلال.

غسان كنفاني وشرارة انطلاق ناجي العلي

ناجي العلي وغسّان كنفاني مِن أهمّ مثقّفي فلسطين الشرفاءناجي العلي وغسّان كنفاني مِن أهمّ مثقّفي فلسطين الشرفاء

في عام 1961 بدأت أولى لوحات ناجي العلى ترى النور، بعيدًا عن جدران السجون، حيث آمن بموهبته أديب فلسطين المُبدع "غسّان كنفاني" وقام بنشرها في مجلّة الحرّية، وقد كانت شرارة انطلاقة ناجي نحو الصحافة السياسيّة، فقد عمِل محرّرًا ورسام كاريكاتير متميز بالعديد من الجرائد والمجلّات، لاسيما في السفير بلبنان، بينما عمل بالكويت في صحيفتي الطّليعة والسياسة، والعديد من الصحف بالبلدان العربية، بينما لاقَت رسوماته إقبالًا لا نظير له سواء من المثقفين العرب أو من المواطنين البُسطاء، حيث لم يعُد مجرّد رسّامًا بل كان سياسي حُر ينقل للعالم ما يدور في سراديب السياسة وخنادقها بريشته ورسومه المعبّرة النّاقدة اللاذعة، بينما ظَل طوال عمره يدافع عن الأرض والقضية، والحرّية بروحه ودمه، حتى تخطّت رسوماته الـ 40 ألف كاريكاتير حيث أصبحت قنابل حارقة لكل مُتخاذل ومُتهاون في حق فلسطين، بدءً من سياسة أمريكا المُتواطئة، وحتى الحكّام العرب، وعلى رأسهم أبو عمّار ذاته.

حنظلة في عُمر العاشرة ولَم يزَل

ريشة ناجي العلي والشّفافية المُطلقَةريشة ناجي العلي والشّفافية المُطلقَة

كانت حِقبة الستّينات على موعًد مع شخصيّة استثنائية تُدعى "حنظلَة" ذلك الصبّي ذو عُمر العاشرة، حيث أعلن ناجي ظهوره للعالم ولكن بظهره فقط، وسوف يظلّ دومًا هكذا مكبّل اليدين وناظرًا إلى ضفّة وطنه الفلسطيني، مع الوعد بأن يُدير وجهه إلى الجميع حين تستعيد فلسطين والعروبة حريّاتها، بينما قرّر ناجي العلى على تسمية الفتى بحنظله نظرًا للمرارة التي يشعر بها بسبب اغترابه، أمّا عن تفسيره لعُمر حنظلة الذي توقف عند سن العاشرة، حيث خالف بذلك كافة قوانين الطبيعة، فقد صمّمه من إحساسه الدفين بحزنه واعتراضه على مفارقة أرضه وبيته وهو في نفس العمر، حيث كان يجد بداخله طفلًا يأبى أن يكبرُ بعيدًا عن أغصان الزيتون ورائحة الليمون، بينما كان ينمو إدراكه ويحكي حقيقةَ ما يَدور من حولهِ، بل وينتقد ويصرخ ويواجه في فضاء لوحاته الفاسدين بأرض فلسطين وكافة الأوطان العربية وأمريكا أيضًا، حتى أصبح لحنظلة ناجي العلي شهرًة عالمية، إلى أن صرّحت صحيفة "النيويورك تايمز' بتصريحات منصفًة له حيث كُتب على صفحاتها "إذا أردت أن تتعرف على آراء العرب في أمريكا، عليك بالنظّر إلى رسومات ناجي العلي" بينما كتب عنه يومًا الاتحاد العالمي لناشري الصّحف، " منذ نهايات القرن الثامن عشر وإلى الآن لم تُنجب الحياة مثل ناجي العلى، حيث يُعد من أحد أعظم رسامي فن الكاريكاتير".

شهادة ميلاد حنظلة كما أرادها ناجي

شهادة ميلاد حنظلةشهادة ميلاد حنظلة

بعد أن جذب حنظلة كافة القراء بأنحاء الوطن العربي، حتى أصبح الملايين يقرأون الجريدة من آخرها قبل أوّلها فقط، كي يستقبلون إشراقات شمس أيامهم مع فنجان قهوتهم وحنظلة حيث يطلّ عليهم من خلالها ويُطلِعهم بأسلوبه الذكي الساخر عن ما يتمّ خفيَة في سراديب السياسة، ويُلقي الضّوء على سقوط البعض في مستنقعات الخضوع للاحتلال، كما كان يَنقلُ الصورة الكاملة للعالم معبّرًا عن أبناء وطنه ومدَى شتاتهم واغترابهم داخل المخيّمات، وكثيرًا ما سُئل ناجي عن ماهية "حنظلة' تلك الشخصية الكرتونية التي أخذت من روحه خفّة ظلّه وسرعة بديهته، وحدسه العالي، فما كان منه سوى تقديمه شهادة ميلاد لحنظلة بأسلوبه الموجِع الممتزج بحروفه الساخرة.

أبو عمّار غاضبًا من ريشة ناجي العلي

الكاريكاتير الذي أشعل نيران الغضب لدي أبو عمارالكاريكاتير الذي أشعل نيران الغضب لدي أبو عمار

التقى ناجي بالراحل ياسر عرفات بشكل مُباشر ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة كان اللقاء ينتهى بخلاف أكبر، حتى أنّ حدّة النقاش كانت تدفع بالوقود لإشعال النيران أكثر بينهم، حيث عرض عليه الرئيس الفلسطيني فرصًة للسفر إلى إيطاليا على نفقة المُنظّمة كي يدرس الرّسم هناك، بينما رفض ناجي وبشدّة، حيث أدرك حينئٍذ أنها ما هى إلا حيلة لإبعاده تمامًا عن نشاطه السياسي المُتمثل في رسوماته اللاذعة للسّلطة بشكل خاص، بينما التقيا مرًة أخرى في حضور رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها ناجي وهى "السفير" حيث طلب منه الزعيم ياسر عرفات بشكل مباشر أن يُقلّل من رسومه وآرائه النقدية له وللسلطَة، ويدير ظهره قليلًا عمّا يدور في أروقة المُنظّمة، وهذا هو ما رفضه ناجي وبشدّة، فهو المُناضل الحقّ وحامل القضيّة على كاهليه من دون خوف أو كلل، إلى أن كان لقائهما الأخير والأكثَر حدّة بينهما، حيث التقاهُ عرفات بالكويت، وعاتبه بشدّة على كاريكاتير حاد استفّزه واستشاط منه، عندما نُشِر حينها حيث تعرّض ناجي لشخص عرفات في تلميح بعلاقته مع السيّدة رشيدة مهران، بينما كانت تعليقات أبطال الكاريكاتير باللهجة الفلسطينية، وهو ما اعتبره عرفات إهانًة كبيرة لذاته وسُخريًة حادة تطفو فوق سطح حقيقة طالما أراد أن يُخفيها دومًا.

ريشة ناجي العلي حين جابَهت المدافع والقنابل

رحل ناجي العلي .. وبقيَت أقوالهُ خالدًة إلى أبَد الآبدين رحل ناجي العلي .. وبقيَت أقوالهُ خالدًة إلى أبَد الآبدين

لم يكُن ناجي مُجرّد رسّام كاريكاتير فَذ فحسب، بل كان المناضل السياسي الحُر، في وقت تخاذل فيه الكثيرين، وتغاضى آخرين عمّا يحدث على أرض فلسطين، وخُنوع العديد من الحُكام، بينما ارتقى ناجي العلي إلى رُتبة المحارب الشريف، حيث كان يُجابِه بريشته أقوى مدافع أمريكا وقنابل إسرائيل، حتى أصبح صدى ريشته وقودًا يُشعل حماس كل مواطن عربي شريف، وكل فلسطيني بشكل خاص، ممّا أجّج الوضع وأشعل النيران في قلب الموساد والعديد من الشخصيات العربية رفيعة المُستوى، حيث أصبح صيده هو الهدف الأول والأولَى لدي الكثيرين، وقَد كان، حين انهالَت عليه التهديدات المباشرة والغير مباشرة، وحتى لحظة اغتياله أمام مقرّ عمله في لندن بعام 1987، بينما تمّ تحرير القضيّة وظلّ اسم الفاعل: مُُسدّسًا كاتمًا للصوت!!

ختامًا، كان ناجي العلي أيقونة للنّضال ورمزًا لصمود لا حدود له، فكم تزدهر أوطاننا العربية بعظمائها وشُرفائها الغائبين الحاضرين بيننَا، ممن كانوا يتنفّسوا الأرض عشقًا، ويجوبون بأرواحهم منادينَ بالحرّية من نهر النيل حَدّ الفُرات، فلَنا أن نُلقى عليهم التحيّة والسلام، علّهم ينثروا علينا نسمات أمل ونغمات حُرّية وروائح سلام.

أمل علي

أمل علي

كاتبة

مرحبًا، أنا أمل، كاتبة ومحررة للأخبار والاحداث في العديد من المجالات

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ