كيف يجعلك التاريخ إنسانا أفضل؟
إن التاريخ من أكثر العلوم التي يحتار الناس في تحديد مكانتها، فالبعض يرى أنه علم رفيع جليل إلا أن فوائده لفئة معينة من نخبة المجتمع فقط لا للعامة، والبعض يرى أن ثمرة التاريخ لا تتعدى التسلية فهو يكتفي بالاستئناس به ولا يرى فيه منفعة أخرى، طبعا التاريخ أغنى من أن تنحصر فوائده على فئة معينة من الناس فقط، وأعمق من أن يكون مجرد قصص وروايات تروى للترفيه على النفس، وإلا لما لاقى هذا الاهتمام من المؤرخين والمثقفين والسياسيين، وتجلى كعلم منفرد له نظرياته وفلسفاته، بل العكس، إن علم التاريخ علم كريم يغدق من يقرأه بفوائده التي تغمر القارئ وتصنع منه إنسانا أفضل، في هذا المقال، سنرى كيف يساعدنا التاريخ في تطوير ذواتنا و التحسين من جودة حياتنا.
التاريخ ليس كما تتصور
الصورة السائدة حول تعريف علم التاريخ هو أنه ذلك العلم الذي يعتني بذكر أحوال الدول والملوك، إلا أن التاريخ أوسع من ذلك، فالتاريخ دراسة للماضي بالمعنى الشامل للكلمة، فأي وثيقة أو حدث أو شخصية أو اختراع أو فكرة من الماضي تعد تاريخا، بدءا من المعاهدات الدولية والحروب العالمية انتهاءا إلى الرسائل الشخصية والأدب والعمران ولوائح الأسعار، فلكل شيء قصة يمكن أن يرويها لنا وتلك القصة تعد تاريخا، يقول العلامة ابن خلدون في تعريف علم التاريخ :
من خلال هذا التعريف أشار إلى علم آخر متعلق بالتاريخ وهو فلسفة التاريخ التي تعنى بتفسير تطور الإنسان من خلال تحديد السنن و العلل التي تسير تاريخ البشر.
اقرأ ايضا
مما سبق نعرف أن علم التاريخ علم من العلوم الإنسانية -التي تعنى بدراسة الإنسان- يهدف إلى معرفة ما وقع في الماضي من أحداث وكيف عاش معاصروها، ما هي أصول العلوم والمعارف وما هي الظروف والأحداث التي أدت إلى ظهورها، كيف تصعد الحضارات ولماذا تسقط…إلخ
كيف يجعل منك التاريخ إنسانا أفضل
الآن بعد ما تعرفنا على علم التاريخ يبقى السؤال: كيف يمكن لهذا العلم أن يقدم لي فائدة على المستوى الذاتي تحسن من حياتي وتجعل مني إنسانا أفضل؟ حسنا، فيما سيأتي سأقدم بعض الفوائد التي أعتقد أن دراسة التاريخ ضمينة بأن تحققها لك:
من أنت ومن أين أتيت
نعم، أعمالنا تعلي وتخفض شأننا وتحدد ما نعتقده وما نحن عليه، إلا أنه شئت أم أبيت فإن للماضي أثر على شخصيتك، فشخصياتنا ناشئة عن مدخلات و تجارب وأحداث تحدث حولنا، ولا يمكن لهذه العوامل الخارجية أن تتكون إلا بعد سلسلة من الأحداث التي وقعت في التاريخ، فنعرف أن استعمال دول المغرب للفرنسية في مناهجهم التعليمية من مخلفات الاستعمار الفرنسي، وأن العربية لغتنا لأنه كان هناك فتح إسلامي قبل مئات السنين، وأن النساء يحظين باهتمام حكومي وإعلامي لأن هناك حركة نسوية قد قامت، وهكذا فيما يتعلق بالسياسة والعمران والتكنولوجيا وشتى الظواهر الأخرى، بل هناك الكثير مما نؤمن به أخذناه من البيئة التي تحمل عادات وتقاليد التي نتجت عن سياقات تاريخية معينة، بالتالي فإن فهم التاريخ هو فهم للواقع الذي نعيشه والمستقبل الذي نترقبه بل هو يساعد في إجابة أهم الأسئلة التي تحدد مصيرنا: من أنا؟ ومن أين أتيت؟
فائدة أخرى هي فهم الآخر، فكما أن التاريخ زودك بالمعرفة التي تساعدك في معرفة ذاتك، هذه المعارف نفسها ستمكنك من فهم غيرك وفهم تركيبة معتقداتهم فعلى سبيل المثال لا الحصر، ستفهم كيف أصبحت كرة القدم من لعبة عادية إلى حدث تغلق من أجله الطرق وتبذل فيه الأموال وتضيع فيه الأعمار
التاريخ يساعدك على الإبداع
الإبداع من أهم مهارات التي يمكن للشخص أن يملكها اليوم، حيث أنه من مزاج العصر خلق طرق جديدة للقيام بمهامنا اليومية، بالطبع هذا لا يتأتى إلا بمعرفة واسعة حول المجال المراد الإبداع فيه والإحاطة بتفاصيل هذه المهام، والطريقة الأفضل لكسب معرفة شاملة في مجال هي دراسة تاريخه، حيث تجد أسباب النشأة وسر الحاجة والثمرة المرجوة، وكيف تطور هذا المجال حتى أصبح على ما هو عليه، وما هي المشاكل والتحديات التي يواجهها اليوم، وهذا يشمل كل شيء، بدءا من تطور العلوم الطبية إلى تطور صناعة الأحذية، إضافة إلى أن قراءة تجارب الناس توسع الآفاق وتنور العقل إلى التفكير بطرق مختلفة أثناء حل مشكلاته.
التاريخ يجعلك متعلما أفضل
مما ينكد عيش المرء هو دراسة مواد أو تخصص لا رغبة له فيه، بل لعل هذا من أهم الأسباب التي جعلت الكثير من الناس ينبذ التعلم، لحسن الحظ توجد العديد من الطرق التي تحول رحلتك التعليمية من عذاب محض إلى رحلة تعلم ممتعة نسبيا، أحد هذه الطرق هي دراسة تاريخ هذا التخصص، فكما قد تقدم، دراسة تاريخ التخصص تمكنك من معرفة أسباب الحاجة إليه وكيف ساهم في تطور الحياة البشر، نتيجة لذلك، ستصبح مهتما بدراسة تخصصك بشكل أعمق كما أنه سيزيد من فهمك واستفادتك مقارنة بغيرك لأنك تدرك ما هي الغايات التي يراد تحقيقها من هذا العلم
فائدة أخرى، إن عملية التعلم تتم عبر تشكيل روابط عصبية في الدماغ تربط بين المعلومات، كل ما زادت هذه الروابط زادت قدرتنا على الاستيعاب وتقل كلما قلت، ما علاقة التاريخ بذلك؟، إن المعرفة الواسعة بالتاريخ تسهل تشكيل هذه الروابط، حيث ستكون على معرفة بقدر كبير من الأحداث التاريخية التي يمكنك من خلالها تشكيل روابط بين الحدث الذي تعرفه والمعلومة الجديدة التي تلقيتها، هذا يعمق فهم هذه المعلومة ويسهل تذكرها
فائدة أخرى، يرى فلاسفة وعلماء الإدارة المعاصرة أن من الطرق المفيدة التي تزيد من إنتاجية العامل هي أن يكون على علم -بعد معرفة مهامه- بالأعمال الأخرى التي تجري في المصنع أو المؤسسة، حيث أن هذا يمكنه من رسم الصورة الكلية لعمل المصنع، فيصبح العامل أكثر قابلية للقيام بعمله على أتم وجه نتيجة تجلي معنى هذا العمل.
هذا المعنى يمكن أن يقاس علينا كأشخاص، فنحن عمال والحياة مصنع ومهمتنا هي تطوير ذواتنا، والتاريخ يمكننا من فهم سياق الواقع الذي نعيشه من خلال معرفة رحلة البشرية، والذي بدوره يمنحنا المعنى من وجودنا والغاية التي تدفعنا إلى التطوير من أنفسنا، فعلى سبيل المثال، عندما يدرك الطالب القصة وراء نشوء المدرسة وتطورها وما الغاية منها، وكيف تم وضع المناهج التعليمية وكيف تطورت، سترسم لديه الصورة الكلية حول النظام التعليمي، الأمر الذي سيكون محفزا له للاجتهاد في مسيرته الدراسية حيث أن المعنى قد أصبح واضحا بعدما كان مبهما.
يجعل منك شخصا أفضل
سواء كنت أبا، أما، أخا، صديقا، زوجا…الخ، فكما سبق الذكر معرفة التاريخ تمكنك من معرفة السياق الذي تعيشه، من معرفة الكثير من العادات والرموز التي نراها بشكل يومي ولا نفهمها كتخصيص اللون الوردي للإناث والأزرق للذكور، طبعا معرفة تاريخ الأفكار والعادات تمكنك من الحكم بشكل صحيح حول العديد من القضايا في الواقع، الأمر الذي يشكل أهمية إذ كون المرء "إمعه" أو "مقلد" أمر مذموم،
كما أن التاريخ يحوي الكثير من التجارب والأخبار، ومعرفة تجارب السابقين لنا ستمكننا من الاستفادة من قصصهم والتعلم من أخطائهم، يقول الفيلسوف الإسباني خورخي سانتايانا:
بالإضافة إلى أن قراءة التاريخ تمكننا من توقع المستقبل فالتاريخ يعيد نفسه كأحداث وإن اختلف الزمان والمكان وللكون سنن وضعها الله لتسييره، فقراءة التاريخ تساعدنا على معرفة هذه السنن ومعرفة أسباب الأحداث التي تتكرر باستمرار كالأزمات الاقتصادية وسقوط الدول وانقلاب موازين القوى.
تقوية الملكة النقدية
يواجه المؤرخون صعوبات جمة في تنقيح المادة التاريخية، نظرا لكثرة رواة التاريخ المنحازين وقلة المادة التاريخية في بعض الأحيان، لذلك تحوي الكتب التاريخية على مادة ضخمة تمكنك من ممارسة النقد كقارئ وتقوية هذه الملكة من خلال قراءة المعايير التي يستند إليها المؤرخون في نقدهم للروايات التاريخية
كيف نقرأ التاريخ؟
توجد العديد من الكتب التي اعتنت بسرد التاريخ إلا أنه يفضل للمبتدئ أن يقرأ مدخلا لعلم التاريخ العام ولعلم التاريخ الإسلامي ثم قراءة في التاريخ العام و في التاريخ الإسلامي من ثم يمكنه التخصص في دراسة دولة أو حقبة معينة، كما يمكن الاستفادة من المقاطع التي تروي التاريخ بشكل موجز خصوصا في معرفة تاريخ شيء معين.
Zakaria Abderrahmane Bellouber
طالب جامعي وكاتب مهتم بالثقافةأنا بلوبر زكريا عبد الرحمان جزائري من مواليد 2004 طالب صحة وسلامة وبيئة، محب للكتابة ومهتم بالثقافة
تصفح صفحة الكاتب