في العملاقين : الكبرياء و الغرور

علي حيدر
كاتب في مجال علم النفس ، الباطن ، و مجالات أخرى
نشرت:
وقت القراءة: دقائق
في العملاقين : الكبرياء و الغرور

في البداية، عليَّ التنويه بأن هاتَين العاطفتين مُختلفتين كُلّياً في الجوهر، و لكن قد تَبدُوان أحياناً مُتشابهتَين ظاهرياً أثناء تجلّيهما تعبيرياً أمام أعين الناس من العامة. فقد يبدو صاحب الكبرياء المعتدل مغروراً في أعين المجتمع أحياناً، أو قد يبدو أحياناً من يتحكم به غروره على أنه شخص أصيل و متواضع، فيفرض بذلك على من حوله احترام و تقدير لا يستحقه فعلياً. فهاتين العاطفتين العملاقتين تَخطوان أمام صاحبهما غالباً و تَتحكمان به، بحيث تعملان على ترتيب و تهيئة أغلب ما يَخصُّه بشكل مُسبق. بينما هو ربما غير مُدرك من منهما يتحكم به بالضبط في ازدحام اللحظة.

كيف يتحكم العملاقين بالإنسان؟

لاشعورياً بالنسبة للإنسان، كُلاً من كبرياءه أو غروره يَملِيانِ عليه أي قرار يجب اتخاذه قبل اتخاذه، أو أي عمل أو سلوك يجب اتباعه قبل اتباعه بالفعل. هاتين العاطفتين كالموجب و السالب، لا يمكن إلا أن تتنافرا في هيئتهما الحقيقية, و ذلك في أوقات تتطلب تواجد إحداهما على حساب الأخرى.

فكبرياء الإنسان غالباً ما يخطو أمامه و بقوّة، فيجرُّه وراءه بغية إجباره على التَصرف فيما يحفظ له كرامته، مقامه، و احترامه لذاته.

أما الغرور، فيخطو أمام الإنسان هو الآخر، فيجرُّه وراءه مُسبّباً له اضطرابات نفسية و إجتماعية مع مرور الوقت. مُعطياً انطباع سيء عنه و مثير للشفقة في حقه. و ذلك في عيون نفسه و عيون المجتمع بالعموم.

إذا كان الإنسان واعياً و صادقاً مع نفسه، عليه أن يسأل نفسه أحيانا بعض الأسئلة الجوهرية

  • هل يمكنني إنكار التأثير الكبير لكبريائي أو غروري على قراراتي المصيرية و المهمة؟
  • هل يمكنني إنكار تأثيرهما حتى على حياتي الروتينية اليومية؟
  • هل لهما تأثير على حياتي الخاصة من خلوات؟
  • ماذا عن اختياراتي؟
  • أو حتى على سلوكي في خلواتي أو تحت أنظار الآخرين؟
  • ألا تتأثر حياتي الإجتماعية إلى حد كبير بتحكم مُسبق من كبريائي أو غروري، باعتبار حياتي الإجتماعية تحت أنظار الآخرين و المجتمع عموماً؟

ما الفرق بين الكبرياء و الغرور؟

الكبرياء

الكبرياء المعتدل هو رداء من التَرفُّع، الإستغناء، و تهذيب النفس يَسمو بصاحبه عُلوّاً. فقد فُطِرَ الإنسان السليم على التَحلّي بهذه العاطفة النبيلة منذ ولادته. فعاطفة الكبرياء إحدى أبرز العواطف المخملية الخجولة، و الحافظة تلقائياً لكرامة و ماء وجه الإنسان و احترامه لنفسه قبل احترامه لغيره.

في العملاقين : الكبرياء و الغرور

لماذا يُساء فهم هذه العاطفة النبيلة غالباً؟

لُغوياً أصل كلمة كبرياء تأتي من التَكبُّر، فمن الناحية الأخلاقية غالباً ما يختلط و يتصارع معيار الكبرياء الجوهري مع معيار التواضع المُبتذل و المُروَّج له بهيئة خاطئة و غير صحّية على المستوى العام للمجتمع، و خاصة من النواحي الدينية، التربوية، أو الفلسفية الأخلاقية. فليس الجميع على نفس المستوى من الفهم الذي يُمكِّنَهم من التمييز الواضح ما بين كبرياء و تواضع النفس البشرية.

فالثري أو المشهور الذي يختلط بالفقراء قد يبدو في نظر المجتمع للوهلة الأولى أنه شخص متواضع، و لكن في حال كان يُقدم على هذا الفعل رياءً لاكتساب المزيد من السمعة الطيبة و إضافتها إلى رصيده أو لهدف شخصي آخر، فهذا ليس بتواضع حقيقي على الاطلاق.

الإنسان الذي يلبس ثياباً رثَّة و يحاول التصرف كالطفل البريء بين البشر ظاناً منه أنه يزهد و يتواضع بهكذا سلوك، هو مخطئ لفهمه الحقيقي لمعنى الزهد و المرتبط بدوره بالتواضع، فهو على الأغلب لن يظهر أمام الآخرين إلا كمحط لإثارة الشفقة عليه و حتى الإستهزاء به أحياناً.

فالزهد الحقيقي لإنسان ينبع من فهم جوهري و ليس من تقليد سطحي لتعاليم قد سمعها و لم يفهمها جيدا.

فغالباً ما يُساء فهم هذه العاطفة النبيلة على أنها نوع من الإستعلاء و المبالغة في عزّة النفس. و لكن في أصلها، عاطفة الكبرياء الحقيقية ليس لها أي علاقة بالتَكبُّر، و ذلك في حال لم تَزِد عن حَدَّها في التعبير، لم تكن مُصطَنعة، أو لم تحمل أي نيّة تحصيلية أو غير سليمة تجاه صاحبها أو من حوله.

أنا شخصياً أرى أن من لا يملك شيئاً من الكبرياء الحقيقي و المعتدل، و مهما كان وضعه، سيجذُب لنفسه المَذلّة، المَسكَنة، و الشفقة من محيطه القريب و المجتمع عموماً، و لا أعتقد أن أحداً يُحبِّذ هكذا شعور.

فعلى الإنسان أن يحافظ على عرش هذه العاطفة النبيلة ما استطاع، فإن سَقط عرش كبرياء الإنسان بالكامل سَقط هذا الإنسان بالمقابل في عين نفسه قبل أن يسقط في عيون من حوله من الناس.

مثال في الكبرياء :

في حال أصابك الجوع، في الوقت أو المكان الغير مناسب، و مدَدت يدك عفوياً لتتناول زوائد طعام أحد الغرباء. سيتدخل حينها كبرياءك تلقائياً و بسرعة، مُتغلِّباً على شهوتك و حماقتك، مانعاً إياك عن فعل ذلك بقوّة إزا لزِمَ الأمر عن طريق إثارة خليط من الحياء و الخوف كرادع.

فكبرياءك يرى في ذلك مذلّة و إهانة لشخصك على الصعيدين الشخصي و الإجتماعي، و ذلك في حال لم يكن هناك مُبرر قوي يسمح لك بتناول زوائد هذا الطعام.

من أشهر أقارب الكبرياء الكرامة و العفّة و الحياء. فالكبرياء عاطفة تتسم بجعل صاحبها يشعر بالحياء بينه و بين نفسه قبل أن يستحي من الآخر، حافظاً له كرامته و ماء وجهه بين الناس بغلاف يحيطه من التَعفُّف.

الغرور :

الغرور عبارة عن رداء من التَبجُّح المُصطنع و الفارغ المحتوى.

لم يُفطَر الإنسان السليم على تَصنُّع الغرور، و إنما تكتسب بعض من شخصيات البشر عن طريق التقليد ثم التَبنّي هذه العاطفة الطُفيلية تدريجياً كجانب من جوانبها المتعددة. فشخصية الإنسان بالعموم لها جوانب كثيرة متناقضة، و ليست صلبة ذات جانب واحد كما يظن الأغلبية. فالبعض يستقطب عاطفة الغرور و يستضيفها أكثر من غيره حسب مستوى جوهره.

عملاق الغرور ضعيف و هش من الداخل، و يعشق الكثير من الدراما المُفتعلة و المتمحورة حوله، و ذلك بغرض لفت الإنتباه إليه. خصوصاً في خلوات هذه العاطفة مع من تتحكم به من مُستضيف لها. فتجعله يشعر غالباً بضعف في شخصيته و ضياع في هويته.

من أهم احتياجات عاطفة الغرور، هي ضرورة تواجد جَمهرة غفيرة مُصفِّقة لها و محيطة بها. فهذه العاطفة الطفيلية، و الركيكة في تكوينها، لا تقف على أي أساسات ثابتة. فهي بالكاد قادرة على إسناد وزنها بالاتكاء على غيرها.

مثال في الغرور :

لنفترض أن فتاة جميلة يتحكم بها غرورها بصورة زائدة و مُسبقة لم تجد سطح يعكس إليها صورتها أو جمهور يُصفق لها و يمدحها في محيطها.

هل يا ترى سَتتجمَّل هذه المرأة؟ لا على الأغلب.

يمكن أن نقول أنه في حال تواجد سطح يعكس صورتها إليها على الأقل فمن المحتمل أن تقع في حب هذه الصورة المعكوسة و تَتجمل لها.

في العملاقين : الكبرياء و الغرور

في حال لم يتواجد سطح عاكس بل بدلاً منه تواجد رجل واحد في محيط هذه الفتاة، فأغلب الظن أنها ستظهر أمامه بكامل أناقتها، لا لتُثير إعجابه، لا أبداً، و إنما لتقيس ردّة فعله تجاه جمالها كما فعلت مع السطح العاكس، مستخدمةً هذا الرجل كمرآة عاكسة. أو مثلاً إذا تواجدت فتاة جميلة أخرى لتغيظها و تنافسها.

نعم، يمكن للغرور أن يصل إلى هذا الحد في تعبيره عن مكنوناته، واضعاً من يتحكم به في مواقف محرجة، مَرضيّة، و مثيرة للشفقة غالباً.

من أشهر أقارب الغرور الأنانية و النرجسية، فالغرور لا يمكن أن يكترث لأحد سوى لنفسه، و يحرص دوماً على تَمسُّكه بكرسيّ عرشه الخيالي، و الغير موجود إلا في مخيّلة صاحبه المُتحكم به.

سِمات تُميز كلاً من الكبرياء و الغرور عن بعضهما

  • الكبرياء يميل إلى الصمت و السكون كنوع من التَرفُّع، احتواء النفس، و الحياء. و ذلك عند التعرض لإنتقاد ساخر أو جارح من شخص تافه أو أحمق مثلاً.
  • بينما يميل الغرور إلى خلق ضجّة فوضوية في ردّهِ على إهانة، في محاولة منه لجذب الإنتباه إلى صاحب هذا الغرور، و خلق جو درامي مُصطنع حول القضية.
  • عاطفة الكبرياء تهُمها النوعية على حساب الكمية. فعملاق الكبرياء يكتفي بلباس أنيق و نظيف واحد أو إثنين لصاحبه.
  • أما عاطفة الغرور فتهمها الكمية على حساب النوعية، فعملاق الغرور لا يقبل لصاحبه إلا بخزانة لا تنفذ من الألبسة المتشابهة و الباهظة الثمن ذات العلامات التجارية.
في العملاقين : الكبرياء و الغرور
  • الكبرياء فطري حقيقي يولَد و يبقى مع الإنسان اذا حافظ عليه.
  • الغرور مُكتسب و مُصطنع، يستضيفه بعض الناس تدريجياً أكثر من غيرهم.
  • طَعمُ الكبرياء قد يكون مُرّاً أغلب الأحيان، كَطعم الدواء الشافي، القوي في مفعوله، و لكن المُرّ في مذاقه.
  • فلا يَغُرنّكَ إذاً طعم الغرور الحلو المذاق، فما هو بالحقيقة إلا قطعة حلوى مزيّنة من الخارج لجذب الإنتباه، و بعد تناولها بقليل سَتسبِّب لك ألم مِعَوي على الأغلب.

ماذا يستطيع الإنسان أن يفعل في هكذا حال يتصارع فيها عملاقين في الحصول على إذن تحكم من صاحبهما؟

يمكن للإنسان أن يستيقظ و يَعي على نفسه نوعاً ما و ينتبه إلى من يتحكم به في اللحظة، أهو كبريائه أم غروره؟

فالإنسان، تدريجياً و بالممارسة، يستطيع إذا كان صادقاً مع نفسه أن يُفرِّق بين العملاقين عندما يراقب أعماقه من أفكار و عواطف. فهو سيطوِّر بذلك آلية تسمح له بأن يستشعر تدريجياً طعماً مختلفاً لكُلاً من الإثنين. فهذا من الممكن أن يجعله يتوقف أثناء استرسال عملاق الغرور في التعبير عن نفسه من خلال الإنسان الذي يستضيفه، فيهدأ هذا الإنسان ليتأمل و يعلم تدريجيا أن ما يحدث الآن لا يناسب طبيعته و جوهره الحقيقي اذا كان صادقا مع نفسه.

و كذلك الأمر بالنسبة لعملاق الكبرياء، فسيستشعر الإنسان تدريجيا بأن عاطفة أصيلة و قديمة قد تولّت زمام الأمور في أوقات حساسة. بشرط أن يكون صريحاً و صادقاً مع نفسه عند محاولة التفريق بين العاطفتين كما ذكرنا سابقاً.

الأهم هو ما يشعر به هذا الإنسان بينه و بين نفسه قبل تجلّي هذا الشعور تعبيرياً أمام الآخر، فعندما يستطيع أن يُفرِّق نوعاً ما، سيستطيع إعطاء إذن التحكم لأحد العملاقين على حساب الآخر. فيُفضَّل تعويد الإنسان نفسه بشكل روتيني على التحلّي بشيء من الكبرياء المعتدل أكثر و أكثر على حساب تطفل عاطفة الغرور و لو كان ذلك مؤلماً بعض الشيء في البداية. فمع مرور الوقت سيكون ذلك لصالحه في النهاية.

بالختام :

الإنسان في النهاية لا يستطيع أن يكون خالي نهائياً من أي إسراف آتي من غروره أو أن يكون معتدل تماماً في كبرياءه، و ذلك تحت حكم جميع أو مختلف الظروف. فمن الطبيعي للإنسان عموما أن يكون مزيج من غرور و كبرياء، فقد خُلق هذا الإنسان ضعيف و قليل الحيلة. فتراه يسعى دوماً لإثبات هويته و وجوده لنفسه و للآخرين بأساليب لا تناسب أحياناً طبيعته الحقيقية. و ذلك في حال تطفل غروره بشكل زائد على كبرياءه. أو في حال بالغَ في التعبير عن كبريائه.

فعلى الرغم من الإختلاف الكبير بين عملاقَي الكبرياء و الغرور في الجوهر، يبقى من الصعب على الإنسان نفسه أن يُميز بينهما أحياناً دون جهد صادق من طرفه. و حتى ممكن أن يكون التمييز ظاهرياً أصعب على من يراقب هذا الإنسان من عائلة، أصدقاء، أو مجتمع بالعموم.

مراجع:

Difference Between Pride and Vanity | Definition, Meaning, Characteristics

Difference Between Pride and Vanity | Definition, Meaning, Characteristics

What is the difference between Pride and Vanity? Pride is a positive and natural feeling while vanity is a negative feeling. Vanity is the excessive pride.. ...

اقرأ المزيد
الغرور سلوك مصدره شعور بالنقص وليس ثقة بالنفس

الغرور سلوك مصدره شعور بالنقص وليس ثقة بالنفس

الأخلاق الإنسانية كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، وفيض نبعها، فهي تشرق وتظلم، تبعاً لطيبة النفس أو خبثها، استقامتها أو انحرافها، وما من خلق ذميم إلا وله سبب من أسباب لؤم النفس أو انحرافها، ومن أسوأ الصفات الإنسانية الغرور والكبر... ...

اقرأ المزيد
علي حيدر

علي حيدر

كاتب في مجال علم النفس ، الباطن ، و مجالات أخرى

إذا كنت تريد معرفة ما قد لا تعرفه عن علم النفس ، الصحة النفسية ، و عن مجالات أخرى غير متداولة على المستوى العام ، كعلم الباطن مثلاً ... فمقالاتي سَتُزوِّدك بخلاصات خبرتي الطويلة في مجالي علم النفس و الباطن. و ذلك بالإضافة إلى مجالات أخرى ترفيهية ، تعليمية ، و ثقافية حصرية.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ