في أساسيات تَذوُّق الجمال
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولمن المعروف أن تَذوُّق الجَماليات بطيفها الواسع هو مفهوم نسبي بشكل عام، و يختلف من شخص لآخر. فيمكن تذوُّق الجماليات عبر نوافذ الحواس الخمسة جميعها و ما يُقابلها من ردات فعل خاصة و شخصية من قبل من يتذوق. و لكن هناك ما يحيط بجمال الشيء و يجعله أكثر جاذبية و تحصيناً، و ذلك قبل السماح أو القدرة المباشرة على تَذوُّق هذا الجمال. فغالبية من يعمل في مجال صناعة المحتوى الجمالي يتفقون على أهمية إحاطة جمال الشيء بالغموض، و ذلك لرفع قدرته الإستباقية على الجذب و التحصين.
نعم، أنا أتكلم عن خاصيّة الجذب التي تخلٌقها إحاطة الأشياء بالغموض.
ما هو الغموض بشكل عام؟
الغموض الذي يحيط بشيء ما، و قبل تبديده نوعاً ما، يتيح لمُستَقبِل أو مُتذوِّق هذا الشيء بأن يُطلق العنان لمُخيّلته. محاولاً بذلك إشباع فضوله الغريزي اللاإرادي و المُتلاعب بأعصابه، وذلك بغية تفسير هذا الشيء الغامض حسب إمكانيات من يَتذوّقه لأول مرة، و حصوله بالمقابل على رعشة البدن الأولى التي من الصعب أن تتكرر بنفس القوة عند محاولة تكرار خَلق نفس التجربة مرات أخرى.
لماذا طبيعة الغموض إنحيازية بالنسبة للإنسان؟
من الصعب على الإنسان أن يكون حيادياً في حكمه على الشيء المُحاط بالغموض، و خصوصاً عند الإختلاط به لأول مرة، و ذلك قبل إمكانية تفسير هذا الغموض من وجهة نظره و حسب إمكانياته على أرض الواقع نوعاً ما.
اقرأ ايضا
فَتَولُّد الشعور أو الإحساس الغريب الجذّاب الذي يأتي مُترافقاً مع صور ذهنية مُتعلِّقة بغموض شيء ما، تَسبُق دوماً القدرة على إزاحة بعض الغموض المُحيط بهذا الشيء على أرض الواقع. فيميل الإنسان عادةً، و كنتيجة لذلك، لأخذ إنطباع إيجابي أو سلبي مُسبق، عام، و مُبالغ به عن ما لا يعرفه بعد.
من أين يبدأ تحفيز الغموض؟
يبدأ تشكيل إنطباع سلبي أو إيجابي عن غموض الشيء من الغريزة و ليس من المنطق العقلي كما هو مُعتقَد على المستوى العام، فالغريزة هي الأسرع و الأكثر اختراقاً و قوة في حكمها على الأمور الإستباقية بشكل عام، و خاصةً في ما يتعلّق بتَذوُّق جمال الأشياء على مستوى أعمق من القدرة الذهنية على ذلك.
فترى الغريزة تعمل على التحفيز التسلسلي السريع لإحساس، فعاطفة، فعقل هذا الإنسان. ظاناً حينها بأن عقله هو المُستَقبِل و المُتذوّق الأول.
العقل الذي يُعَد الأبطء و الأقل قدرةً و تشويقاً في محاولته تفسير غموض شيء ما لوحده، و ذلك في حال لم يتم تحفيزه بصورة مُسبقة من مصادر أخرى أكثر حساسية، عمق، و سرعة منه على ذلك.
أو يمكننا القول بعبارة أخرى :
في حال استقبال الغموض بشكل منطقي أو رياضي تحليلي بحت دون أي تحفيز غريزي و استباقي له لا يمكن أن يُعطيه دوافع قوية كفاية تستطيع جرّهُ لمزيد من الإستكشاف على أرض الواقع بالعموم. فبالرغم من محاولة الإنسان التَمسُّك بالمحاكمة العقلية الإستباقية على كل شيء و محاولة إقناع نفسه بأن عقله يَمسِك بزمام الأمور دوماً، و لكن تجارب الحياة تدلُّ على أن منطق العقل لا يستطيع احتواء و حل كل شيء لوحده و بوضوح. فهو بالنهاية عضو استقبال له استخداماته، كما القلب عضو استقبال هو الآخر و له استخداماته أيضاً. فالبصيرة مثلاً و تحسُّس ما خُفيَ عن العقل من نوعية الأمور تسكن القلب.
ما هو دور الغموض في تَذوُّق الجماليات؟
يأتي دور الغموض في تَذوّق الجماليات عندما ندرك بأن ما خُفِيَ مما هو جميل يعطي انطباع عام عن هذا الجميل أجمل و أكثر انتعاشاً مما يستحقه بالفعل على أرض الواقع. و خصوصاً كلما بَعُدَت إمكانية التماس المباشر مع هذا الشي الجميل مكانياً أو زمنياً، و في لحظات عابرة، و كلما كان هناك حواجز أكثر بينه و بين مُتذوِّقه، مما يمنعه من تبديد الغموض المُحاط بهذا الشيء الجميل.
أكبر مثال على ذلك هو مفهوم الأنوثة بشكل عام :
فبالنسبة للرجل الغريب، المرأة الجميلة المُتَبرِّجة و المُرتدية لباساً محتشماً أو شبه محتشم ، يغطي أجزاء من جسدها و رأسها و يكشف عن أجزاء أخرى بطريقة مدروسة، هي من وجهة نظر هذا الغريب الذي يراها لأول مرة أكثر قدرة و قوة على ترك إنطباع أجمل مما تستحقه بالفعل على أرض الواقع.
لماذا ذكرتُ الأنوثة بدلاً من الذكورة بالرغم من كونهما مفهومان مُكمِّلان لبعضهما؟
كما هو معروف، يرمز الذكر إلى الموجب المُخترق لرمز الأنثى السالب المُستَقبِل. فالذكر هو الأَسبَق و الأكثر هيمنة في استقبالهِ و تذوّقهِ الغريزي بصورة عامة. فبالنسبة للإنسان مثلاً، الرجل هو كائن مُحَفَّز بصرياً أكثر من المرأة التي تسلك طُرقاً تعبيرية غير مباشرة بطبيعتها.
بالعودة إلى مثالنا السابق :
فلو افترضنا أن هذا الرجل الغريب الناظر إلى تلك الجميلة تزوجها فيما بعد و أصبح له الحق بأن يراها عاريةً (عذراً لاستخدام هكذا مصطلح يخدش الحياء العام بعض الشيء، و لكن الغرض منه هو إيصال الفكرة).
ماذا سيحدث حينئذٍ؟
حينئذٍ سيختفي الكثير من سِحر الزوجة، لأن زوجها قد أزاح عنها الغموض تدريجياً. ذاك الغموض الذي كان يحيط بجسدها، بشخصيتها، و بكامل كيانها.
تبدَّدَ الغموض، ظهرت الصورة الكاملة، و حُلَّ اللّغز.
لم يعد هناك ما يُحفِّز مُخَيّلته الفضولية الغير محدودة، يروي و يُجدّد أحاسيسه، مشاعره، و رغباته كالسابق. متلاعباً بغرائزه و أعصابه.
ما هي أهم سِمة مترافقة لتذوُّق الجمال؟
يمكن لنا أن نستنتج مما سبق ذِكرهُ بأن خاصيّة الجمال خاصيّة زائلة تدريجياً من وجهة نظر من يَتذوق نفس الشيء الجميل بشكل كامل و متكرر بكثافة. و ذلك إذا لم تُحِط بهذا الجمال و تحميه في بداية الطريق خاصيّة الغموض بضبابيتها، و التي تَحول بينها و بين القدرة على الحلّ الكامل للغز هذا الجمال نسبياً.
أو يُستَحسَن على الأقل ترك فسحات متباعدة ما بين تكرار تذوُّق الشيء الجميل نفسه و ذلك بهدف تجديد الطاقة في قدرتها التقريبية على خلق نفس الشعور أو رعشة البدن أو ذكريات الحنين الخاصة و القديمة nostalgia. و لكن مع ذلك يبقى الإختلاط و التفاعل الأول مع غموض ما يَجذِبك الأكثر قوة في تأثيره على كامل كيانك.
بعض الأمثلة العشوائية في إحاطة الغموض :
- الرواية الغامضة يختفي الكثير من سحرها و جمالها بعد قراءتها لأول مرة.
- الطبيعة التي تستكشفها لأول مرة أكثر سحراً و جمالاً من الطبيعة التي مرَرتَ بها مراراً و تكرارا".
- بعد إزالة الغلاف الجميل عن شيء ما و تَفَحُصهُ بالكامل، قد يفقد هذا الشيء الكثير من سحره السابق.
- الشخصية الغامضة أكثر جاذبية و هيبة من غيرها.
بالختام :
كلّما أحاطَ الغموض بشيء ما، كلما زادت جاذبيته و تحصينه. فالغموض يَسبق الجمال بخطوة و يحيط به.
الغموض، كما تم توضيحه مسبقا، سمته الأساسية تكمن في وضع ستار حول ما ظهر و ما كان باطناً مما هو جميل ريثما يتم إزاحة هذا الستار نوعا ما. فإذا لم يكن هناك ستار يحيط بهذا الجمال و يسبق إمكانية نزعه، فلن يكون هناك محفز أو دافع فعّال و قوي كفاية لجَرّ من يحاول تذوق هذا الشيء الجميل إلى المزيد من الرغبة في إستكشاف أعمق.
نستنتج مما سبق بأن الإحاطة غموضاً هي ركن أساسي من أركان تذوّق الجمال. كون هذا الغموض يسبق تذوّق الجميل الى عالم الأفكار، العواطف، و الأحاسيس التي لا تستطيع أن تهدأ أو تستقر حتى إزاحة بعض الغموض عن هذا الجميل.
المراجع :
An Instinct for Beauty
Harvesters, by Breughel What makes a landscape beautiful? What is it about the Hudson River painters that appeals so much? Why does Con... ...
اقرأ المزيدعلي حيدر
كاتب في مجال علم النفس ، الباطن ، و مجالات أخرىإذا كنت تريد معرفة ما قد لا تعرفه عن علم النفس ، الصحة النفسية ، و عن مجالات أخرى غير متداولة على المستوى العام ، كعلم الباطن مثلاً ... فمقالاتي سَتُزوِّدك بخلاصات خبرتي الطويلة في مجالي علم النفس و الباطن. و ذلك بالإضافة إلى مجالات أخرى ترفيهية ، تعليمية ، و ثقافية حصرية.
تصفح صفحة الكاتب