
في زمنِنا هذا، حيثُ تتهادى الأخبارُ كأوراقِ الخريفِ المُتساقطة، وتتدفّقُ الإشعاراتُ كأنّها نهرٌ لا ينضب، صرنا نبحثُ عن شيءٍ نفتقدهُ في أعماقِنا وهو فنُّ الحضور ليسَ الحضورُ الجسديّ وحدهُ، بل ذلكَ الغوصُ الكاملُ في بحرِ اللحظةِ الراهنة، بكلِّ تفاصيلِها الخفيّةِ وأصدائِها العميقة. إنّه الترياقُ الأصيلُ لسمومِ التشتّتِ والتسارعِ الذي يُهدّدُ جوهرَ إنسانيتِنا.تخيّلْ نفسَكَ جالسًا على شاطئٍ هادئٍ عندَ الغروب. الأمواجُ تتكسّرُ على الرمالِ بلُطف، تداخلت من الضوءِ والظلِّ على صفحةِ الماء، نسمةٌ تُلامسُ وجنتَك. كم منّا يستطيعُ أن يغوصَ في هذهِ اللحظةِ دونَ أن يسرقَ هاتفُه نظراتِه نحوَ عالمٍ افتراضيٍّ لا يعرفُ طعمَ الحياة ولا دفءَ الشمسِ الغاربة لقد صرنا كالطائرِ الذي يُحلّقُ بجناحٍ واحدٍ جسدُنا في مكانٍ وروحُنا ووعيُنا شتّى في عوالمَ أخرى.
جذورُ التشتّت من حكمةِ الأجدادِ إلى ضجيجِ الأبناءِ
كانَ أجدادُنا، رغمَ بساطةِ أدواتِهم، يمتلكونَ حكمةً عميقةً في الحضورِ. كانَ الراعي يراقبُ قطعانَه بكلِّ حواسِّه، يسمعُ حفيفَ العشبِ، يشمُّ رائحةَ المطرِ القادمِ، يشعرُ بقلقِ الخروفِ الصغير. كانَ الصانعُ يُنصتُ لخشبِه أو حديدِه، يلمسُه بإجلالٍ، يتفاعلُ معَ مادّتِه كشريكٍ في الخلقِ. كانَ الحكواتيُّ ينسجُ خيوطَ الحكايةِ ويُمسكُ بألبابِ سامعيهِ، لأنّهم كانوا حاضرينَ بكلِّ كيانِهم، تُشعِلُ الكلماتُ خيالَهم وتلامسُ مشاعرَهم. كانَ الوجودُ تجربةً حسيّةً كاملةً، طقسًا يوميًّا من التأمّلِ العمليّ.
أمّا اليوم، فصرنا نعيشُ في "اقتصادِ الاهتمام". كلُّ تطبيقٍ، كلُّ منصّةٍ، كلُّ إعلانٍ يُصارعُ ليخطفَ جزءًا من تركيزِنا المتناثرِ. لقد حوّلنا لحظاتِنا إلى شظايا نقرأُ أثناءَ الأكلِ، نُرسلُ الرسائلَ أثناءَ المشيِ، نتصفّحُ وسائلَ التواصلِ أثناءَ الحديثِ معَ الأحبّةِ. هذا التعدّدُ السطحيُّ يسرقُ منّا جوهرَ التجربةِ. فكيفَ لنا أن نذوقَ طعمَ القهوةِ إذا كنّا نفكّرُ في بريدِنا الإلكترونيّ؟ وكيفَ لنا أن نسمعَ همسَ الحبيبِ إذا كنّا نُتابعُ شاشةً متلألئةً؟
الحضورُ ليسَ ترفًا، بل مقاومةٌ
فنُّ الحضورِ، في هذا السياقِ، ليسَ ترفًا فلسفيًّا أو ممارسةً للرهبانِ فحسب. إنّه فعلُ مقاومةٍ وجوديّ. مقاومةٌ ضدّ آلةِ التشتيتِ الضخمةِ التي تُريدُ أن تجعلَنا مستهلكينَ سلبيّينَ، لا كائناتٍ واعيةً فاعلةً. هو إعادةُ تأكيدٍ على إنسانيتِنا. عندما نختارُ أن نكونَ حاضرينَ
- نُحيي الحواسَ: نلمسُ قماشَ المقعدِ بوعي، نتذوّقُ كلَّ نكهةٍ في لقمةِ الطعامِ، نستنشقُ عبيرَ الزهرةِ كما لو كنّا نستنشقُه لأولِ مرّةٍ. نُصغي للصوتِ ليسَ لمجرّدِ المعلومةِ، بل لنبرتِه وإيقاعِه ومشاعرِ المتحدّثِ خلفَ الكلماتِ.
- نعمّقُ العلاقاتَ: الحديثُ معَ صديقٍ حاضرينَ بكلِّ جوارحِنا، ننظرُ في عينيهِ، نُصغي بقلوبِنا قبلَ آذانِنا، نُشاركُهُ ضحكتَه وصمتَه. هذا الحضورُ ينسجُ خيوطًا من الذهبِ بينَ النفوسِ، أقوى من ألفِ رسالةٍ نصيّةٍ.
- نكتشفُ الجمالَ المخفيَّ: في التفاصيلِ الصغيرةِ التي تغيبُ عن المُسرعينَ في لعبةُ الظلِّ على الحائطِ، تعابيرُ وجهِ طفلٍ يتفحّصُ دودةً، تغيّرُ لونِ السماءِ بينَ دقيقةٍ وأخرى. هذا الجمالُ يُغذّي الروحَ ويُذكّرُنا بعجائبِ الوجودِ.
- نُهدّئُ العاصفةَ الداخليّةَ: التوجّه الكاملُ للّحظةِ يقطعُ سلسلةَ القلقِ على المستقبلِ أو الندمِ على الماضي. نجدُ ملاذًا في "الآن"، حيثُ تنحسرُ الأمواجُ العاتيةُ لنفسِنا المضطربةِ.
كيفَ ننسجُ خيوطَ الحضورِ في نسيجِ يومِنا؟
لا يتطلّبُ الأمرُ انعزالًا تامًّا، بل يقظةً مستمرّةً أوقاتُ صمتٍ مُتعمّدٍ دقائقُ قليلةٌ صباحًا أو مساءً، نطفئُ فيها الأجهزةَ، نجلسُ معَ أنفُسِنا، نراقبُ أنفاسَنا أو أصواتَ الطبيعةِ من حولِنا.
ممارسةٌ واحدةٌ بوعيٍ كاملٍ اختيارُ نشاطٍ بسيطٍ والقيامُ بهِ بتركيزٍ تامٍّ على كلِّ حركةٍ وإحساسٍ.
الاستراحاتُ الرقميّةُ تحديدُ أوقاتٍ محدّدةٍ نبتعدُ فيها عن الشاشاتِ، نمنحُ عيونَنا وعقولَنا فرصةً للراحةِ والتوجّه للعالمِ الملموسِ.
الإصغاءُ الفعّالُ عندما يتحدّثُ إلينا أحدٌ، نُوقفُ ما في أيدينا، نوجّه وجوهَنا ونظرَنا نحوَهُ، نُصغي لفهمِ مشاعرِه قبلَ كلماتِه، دونَ مقاطعةٍ أو تشتيتٍ.
الامتنانُ للّحظةِ وقفةٌ سريعةٌ نُدركُ فيها نعمةً بسيطةً (صحّةٌ، طعامٌ، دفءٌ شمسيّ) ونشعرُ بها بكلِّ كيانِنا.

الحضورُ هو أن تنسى الزمنَ وأنتَ منغمسٌ في فعلٍ تحبُّه، أو حديثٍ يغذي روحَك، أو تأمّلٍ في جمالٍ يخطفُ أنفاسَك. هو أن تعودَ إلى سكينة جسدِك، إلى ملاذِ لحظتِك، بعدَ أن شردتَ طويلًا في صحارى الافتراضِ والتوقّعاتِ. إنّه الفنُّ الذي يُعيدُ لوجودِنا كثافتَه ونقاءَه، ويُذكّرُنا بأنّ الحياةَ ليستْ في كمِّ ما نعيشُه، بل في عمقِ حضورِنا فيما نعيشُ. في هذا العمقِ تكمنُ السكينةُ، والفهمُ، والجمالُ الحقيقيّ، وفي النهايةِ، تكمنُ سعادتُنا الأصيلةُ. فهل نختارُ أن نعودَ إلى أنفُسِنا، إلى هُنا والآن، لنعيشَ بكلِّ ما في الكلمةِ من معنى .