ديفيد كوامن: يقدم نظرة مقربة لتشالز دارون، وعن أهم المحطات في حياته
ما أن يذكر أسم دارون حتى يبدأ الجدال حول نظرية دارون عن التطور، البعض يؤيدها ويرفضها البعض الآخر، أغلب من يرفضها لا يعرف مضمونها كل ما يعرفه هو تصنيفه للإنسان على أن أصله قرد رغم أن هذه الفكرة طرحها على استحياء دون التوغل فيها، فلا يوجد أي دعوى في كتاب أصل الأنواع لدارون باليقين المطلق على أننا نحن البشر نتشارك مع القردة في احد الأسلاف!، وحتى الكثير ممن يؤيدون نظرية دارون عن التطور يرفضون إستيعاب التداعيات الكاملة لما كتبه، فأكبر أفكار دارون هي ما يطلق عليها الأنتخاب الطبيعي والتي عدها الآلية الرئيسية للتغير التطوري ومعيار التقييم الوحيدان لها هما النجاح في البقاء والنجاح في التكاثر.
حديثنا هنا حول تشارلز دارون وكشف ما مر به لتتشكل عقليته ويتوصل لنظريته من تجارب وأبحاث و قراءات وتأملات وملاحظات، فقط كشف ديفيد كوامن وهو صحفي علمي في كتابه "دارون مترددا" عن كل جوانب حياة دارون، والذي كتبه بعد بحث دام طويلا لينتج هذا الكتاب بمثابة سيرة ذاتية لدارون.
رحلة السفينة بيجل ومدى تأثيرها على تفكير دارون:
ولد دارون عام 1809 وخلال فترة شبابه كان شابا خجول مهتما بتربية الحمام وزهور الربيع ومولع بصيد الطيور، مما دفع والده ذات يوم بنعته بأنه" مصدر عار لنفسه وعائلته".
لكن رحلته على السفينة بيجل غيرته تغيير جذري، فقد قضى خمس سنوات على متنها، وهي سفينة تابعة للأسطول البريطاني أرسلت لرسم خرائط امتدادات معينة لخط ساحل أمريكا الجنوبية، كان دور دارون كأحد البيولوجيين الميدانيين يقوم بجمع عينات بحرية بشبكة عوالق تجر وراء المركب، ويقوم بنزهة طويلة على الشاطئ لمزيد من أعمال الجمع والملاحظة ليتحول من شخص بلا خبرة الى عالم منهجيا ثاقب الفطنة.
اقرأ ايضا
عند عودته الى بريطانيا عكف على قراءة الأبحاث ومراسلات العلماء وإجراء تجارب وعمليات التشريح وملاحظة الغابات التي لا تبعد عن المنزل ثم التفكير، فكان يفضل الإنعزال والبقاء بين الجدران لحد بعيد.
بحلول عام 1842 أصبح دارون مؤلفا مشهورا بفضل مؤلفه يوميات السفينة بيجل الذي نشر عام 1839، كما انتخب زميلا للجمعية الملكية المنتدى العلمي الأول في بريطانيا، فأصبح والده يفخر به ويقول عنه لأخواته "عجبا لقد تغير شكل رأسه تماما" يقصد تغيير شكل تفكيره، ومع ذلك كتب دارون في مذكراته أنه لم ينسى أبدا ما نعته به والده في شبابه بأنه مصدر عار لنفسه وعائلته ومع ذلك أيضا أقر بأن والده أطيب رجل عرفه على الأطلاق!.
دور "إيما" في حياة دارون:
تزوج إيما ابنة خاله في يناير 1839 كانت في الثلاثين من عمرها تكبره قليلا في العمر، لكن كان بينهم فارق كبير هي ورعة مسيحية متدينة وهو لديه شكوك لاهوتية!.
أنجب منها عشر أبناء توفي منهم ثلاثة وهم صغار، لم تهتم ايما بأولادها فحسب بل كانت أيضا ممرضة لزوجها الذي كانت صحته معتلة في أغلب الأوقات ولم يعرف أحد تشخيص حالته، كان هناك دائما فراغ كبير بين معتقداتها وتفكيره واختلافهم حول الآلهة والكتاب المقدس والخلق والحياة الأخرى، لذلك كانوا يتجنبوا الحديث في مثل هذه الموضوعات لكنها كانت دائما قلقة على روحه وكتبت له خطاب تشرح فيه مخاوفها واضطرابها حول اختلافهم وختمت الخطاب:
"ان كل ما يخصك يخصني أيضا وسأكون أشد تعاسة لو ظننت اننا لا ينتمي بعضنا لبعض الى الأبد".
دارون يعمل في صمت:
كان دارون يدرس علم الأحياء في عزلة، ويرتكب الأخطاء أحيانا ويغير رأيه أحيانا أخرى ولا ريب أن معظم كتاباته المنشورة تتقاسم موضوعا واحدا في أساسها وهو وحدة الحياة وتعكس عمليات التطور.
كان في بداية فكرته عن التطور حذر ومشكك في ملاحظاته ومع الوقت في التفكير والتحليل زادت ثقته بنفسه وأصبح يطلق على فكرته نظرية أثناء تدوينها في دفتر ملاحظاته، وبدأ البنيان يتهاوى فبعد أن استثنى الإنسان من نظريته وجد أن الانسان ليس بإله وأن لديه بعض الغرائز والمشاعر المماثلة للحيوان ليستنتج أن الإنسان ليس استثناء ولم يتراجع عن ذلك.
كما أدرك أن نظريته ستكون أكبر من قدرة الآخرين على الأستيعاب، فكان لا يبوح بها إلا لدفاتر ملاحظاته، فظل يعمل عليها حوالي عشرين سنة قبل أن يعلن عنها.
لم يكن دارون أول من طرح فكرة التطور:
لم يكن دارون أول من فكر في نظرية التطور أو توصل لفكرة أن الأنواع ليست ثابتة، ففي نهاية القرن 18 أشتهر العالم الفرنسي لامارك بفكرته حول توارث الصفات المكتسبة، يرى لامارك بأن هناك عاملان يفسران التطور أحداهما كما ذكر دارون هو النزعة الفطرية في الكائنات الحية لأن تتقدم تدريجيا من الأشكال البسيطة إلى المعقدة، اما العامل الثاني ينقسم لأربع عناصر:
الأول: أن الحيوانات تواجه ضغوطا معينة من الظروف الخارجية البيئة
الثاني: عندما تتغير الظروف الخارجية يصبح للحيوانات احتياجات جديدة، وتستجيب لهذه الاحتياجات إما بزيادة استخدام أعضاء معينة أو قدرات معينة أو بإهمال استخدام تلك التي كانت تستخدمها.
الثالث:هو ان زيادة الاستخدام تنتج أن يزيد العضو أو القدرة حجما او قوة لكن عدم استخدامها يجعلها تضمر أو تضعف.
الرابع:أن كل هذه الصفات المكتسبة قابلة للتوارث.
أمثلة على ذلك الزرافة الصغيرة تولد برقبة طويلة لأن أمها و أباها مدا رقبتهما للوصول الى الأوراق العالية، وطيور الكيوي لها جنيحات صغيرة عديمة الفائدة لأن أسلاف الكيوي أهملت الطيران.
وأيضا جده إرازموس دارون يعد من رواد التطور فقد طرح فكرة التطور قبل أربعين عام من فكرة دارون في كتابه فسيولوجيا الحيوان، والذي يعتبر بحث طبي طرح فكرته دون توضيح أو توغل فقال "الحيوانات حارة الدماء نشأت كلها من خيط حي واحد، وان خط السلالة المشتركة يملك القدرة على مواصلة التحسن بواسطة نشاطه الخاص المتأصل فيه وهذه التحسينات قابلة لأن تنقل من الوالدين للذرية".
دراسة البرنقيل أو ما يطلق عليها "فترة تأخر دارون":
ما بين عامي 1846 و 1854 لم يفعل دارون شيئا اخر سوى دراسة البرنقيل وهي كائنات بالغة الصغر تختبئ في أصداف نوع معين من القواقع البحرية، كان توصيف البرنقل انعطافا غير مخطط له أبعده لفترة عن التحول، لكنه أعاده إليه مجددا فخلال دراسته له وجد نتائج تدعم نظريته، كان دارون يرى أن التصنيف ينبغي أن يعكس درجة القرابة بمعنى أن انحدار السلالات من اسلاف مشتركة ليس الامر مسألة غيبية بل هو متعلق بعلم الانساب.
والاس يدفع دارون للإعلان عن نظريته:-
وبينما كان دارون مشغولا ببرنقولاته غادر شاب يدعي "ألفرد راسل والاس" ليفربول فوق سفينة متجهة للبرازيل عام 1848، يعرف والاس من التاريخ الطبيعي ما يكفي لأن يكون غير راض عن التفسيرات القديمة عن تنوع الانواع وتوزيعها واصولها، وها هو يتجه الى المناطق المدارية سعيا وراء المغامرات ووراء فرصة للإسهام بحقائق جديدة، لكن ما يتوصل له والاس سيدفع دارون للتوقف عن تردده والإسراع في الإعلان عن نظريته.
وصل الى باب دارون في الثامن عشر من يونيو عام 1858 خطاب بالبريد من ألفرد والاس يحوي مخطوطة من عشرين صفحة بعنوان "عن نزعة المتغايرات الى الابتعاد الى ما لانهاية عن النمط الأصلي" وبجانبها رسالة وكان واضح من خلال المخطوطة ان والاس توصل على نحو مستقل بفكرة التطور بالإنتخاب الطبيعي، كان دارون وقتها مازال يعمل على كتابه الضخم حول نظريته، بعد ان انتهى من قراءة الخطاب والمخطوطة، شعر دارون بانه شخص محطم ليس هناك من يلومه إلا نفسه، هذا الحدث جعل دارون يفكر ان لا مزيد من التسويف، فترك دارون كتابه الكبير وعمل على كتابة كتاب صغير ملخص لنظريته، واجبر نفسه على التركيز على الضروريات كان يختار النقط الأساسية ويوضحها تماما ثم ينتقل الى غيرها.
أصل الأنواع "كتاب دارون الكريه":
انهى دارون مسودة كتابه أصل الانواع بعد ثلاثة عشر شهرا من العمل المحموم وكان اثناء العمل عليه يطلق على الكتاب الكريه لأنه استنفذ طاقته، لكن دارون تمادى في نظريته مفترضا حدوث تحول الانواع عبر جميع الكائنات الحية، لانه لم يستطع ان يرى اي طريقة ممكنه لرسم حد فاصل والقول انه يجب التوقف هنا، كان في هذا تلميح لرأيه عن أصل البشر.
طبع من الكتاب 1250 نسخة كطبعة اولى في نوفمبر 1859 بيعت بالكامل في اليوم الاول، بات كتاب اصل الانواع ناجحا على المستوى التجاري، كتب دارون بعده العديد من الكتب لكنها لم تحظى الشهرة والاهتمام مثله، منها كتاب "انحدار سلالة الإنسان والإنتخاب بالنسبة للجنس" والذي تناول فيه أن انحدار البشرية من خط سلالة حيواني هو احد اجرأ افكار دارون الذي نشر عام 1871، وقصد منه ان يكون مكملا لكتاب اصل الانواع لكنه فقد بؤرة تركيزه، حقق الكتاب وقتها رواجا كبيرا بفضل شهرة افكاره لكنه الآن لا ينال من الانتباه ما يناله اصل الانواع .
يعلن دارون في فصله الاخير ان الكتاب كله بالأساس حجة واحدة طويلة تربط فكرة انحدار السلالة من أصل مشترك مع فكرة الانتخاب الطبيعي، ويتنبأ بان نظريته ستشعل ثورة لها قدرها في التاريخ الطبيعي وهذا ما حدث، وانه سيكون في المستقبل البعيد مجالات مفتوحة لأبحاث اكثر أهمية ثم يطلق أشهر تعليق متحفظ قائلا" سيلقى الضوء على اصل الإنسان وتاريخه لكنه لم يقل اكثر من ذلك ولم يتناول عن تطور الانسان".
وختم دارون الكتاب بهذا النص" هناك عظمة في هذه النظرة للحياة، وقواها المتعددة، التي نفثت أصلا في أشكال محدودة أو في شكل واحد، وأنه بينما كان الكوكب يواصل دورانه حسب قانون الجاذبية الثابت، تطورت ولا تزال تطور، من بداية بالغة البساطة، أشكالا بلا نهاية غاية في الجمال والروعة".
لم يعتزل دارون العمل قط وكان دائما ملتزم بتلبية ندائه الداخلي فأبحاثه كانت نبض حياته، حصل في حياته على الكثير من التكريمات والأوسمة، توفى دارون في التاسع عشر من ابريل 1882 من هبوط ضموري في القلب في الثالثة والسبعين من عمره وتم دفنه في كنيسة وستمنستر في لندن رغم نزعته المادية.
من الانتقادات اللازعة للكتاب ما ذكره آدم سيدجويك أستاذ كامبردج الذي علم دارون الجيولوجيا الميدانية قبل رحلة السفينة بيجل وصف الكتاب" بانه طبق من المادية الفاسدة طبخ ببراعة وقدم للأكل" .
المقالة تضمنت أهم النقاط التي تناولها الكتاب، ومع ذلك قراتها لا تغني عن قراءة الكتاب فعلى الرغم من أنه يتناول حياة أحد أهم العلماء، إلا أنه كتب بأسلوب أدبي سلس وشيق، أتمنى لكم قرائة شيقة وثرية.
المصدر كتاب دارون مترددا للصحفي والكاتب ديفيد كوامن.