داخل كل شخص كبير، وحش صغير. مفهوم الظل لدى كارل يونغ

zakaria bychlifen
كاتب إبداعي
نشرت:
وقت القراءة: دقائق
رجل ينظر من خلال نافذة ضبابيةرجل ينظر من خلال نافذة ضبابية

يرادف الشر في ذهن الأغلبية، القتل، الاغتصاب، وغيرها من الأفعال المشينة التي يضر بها الإنسان أخيه الإنسان. ويرادف المصطلح كذلك أشخاصًا محددين، كهيتلر أو ستالين.

لكن داخل كل إنسان كبير، وحش صغير، قادر على إلحاق الأذى الجسيم. ففيلم التطهير (the purge)، ذكرنا بأن في غياب القوانين، والعقاب، يمكن للإنسان المسالم أن يجمع في داخله وفي صمت ما ألحق به من أدى نفسي أو جسدي على حد سواء إلى أن يحس بأن لديه السلطة الكاملة في موقف ما، على شخص ما، ليطلق العنان لدوافعه المظلمة. وهذا ما توصلت إليه دراسة في جامعة ستانفورد الأمريكية في سنة 1971.

تقوم تجربة التجربة على تفريق عينة من طلبة الجامعات إلى فرقتين، الأولى تمتل دور السجناء، والثانية دور حراس السجن. مع إعطاء هذه الأخيرة الحرية المطلقة لمعاقبة الفرقة الأولى في حال مخالفتهم لقانون من القوانين المتفق عليها من قبل. بعد أسبوع فقط، ألغيت التجربة، بسبب العنف الزائد في العقاب الذي أداقته فرقة حراس السجن من الطلبة المجموعة الأخرى تحت السلطة.

لماذا يقدم المرء على فعل الشر؟ لهذا السؤال كثير الأجوبة. لكن لماذا يقدم أشخاص عاديون، مسالمون، على القيام بأفعال شنيعة؟ لهذا السؤال جواب واحد، تجده فيما يلي من أسطر مقال، داخل كل شخص كبير، وحش صغير. مفهوم الظل لدى كارل يونغ.

لكن من هو كارل يونغ؟

كارل غوستاف يونغ هو الخروف الأسود بين أقرانه من علماء النفس. ولد كارل في بلدة كسفل في سويسرا سنة 26 يوليو 1875، لعائلة متدينة حيت كان والده قسيسًا.


اقرأ ايضا

    نشأ يونغ وحيدًا، ومنعزلًا، ولم يكن مجتهدًا في المدرسة، بل فضل قضاء وقته في التخيل. لكن هذا لا يعني أن قدراته الفكرية كانت عادية، بل ومنذ سن الثالثة أتبت كارل أن قدراته الفكرية تتعدى أقرانه، وبين عن هذا فيما بعد حين أخد دراسته على محمل الجد.

    كان كارل قارئًا نهمًا، فطوّر لديه شغف باللاهوت والفلسفة وعلم الآثار الذي كان قاب قوسين أو أدنى من يدرسه بجامعة بازل، لكنه قرر دراسة الطب على غرار جده.

    لم يتوقف كارل عن قراءة الأدب والفن وغيرها من العلوم الإنسانية أثناء دراسته للطب، وانعدام رفقاء له يشاركونه نفس الاهتمام في كلية الطب جعله يغير تخصصه الجامعي نحو طب النفس.

    هنا كانت انطلاقته الفعلية في الميدان، وعُززت بدفعة قوية بعد أن تزوج من ثاني أغنى وريثة سويسرية إيما راوشنباخ سنة 1903 التي أزالت قيود المال عن مخططاته ودعمته لتأسيس علم النفس التحليلي وليصبح طبيبًا بارزًا.

    ومن معجزات هذا الأخير، أن في سنوات تدريسه قام بتنويم شابة في السابعة عشر تعاني من شلل في قدمها اليسرى مغناطيسيًا أمام عشرين طالب، وبعد أن قامت بسرد قصتها في محاضرته عن الفصام، استيقظت بعد عدة محاولات فاشلة من كارل أتارت رعبه، مستعيدة القدرة على المشي.

    اشتهر يونغ بصدقاته مع عالم النفس فرويد، لكنها لم تدم طويلًا، فانتقاد كارل لفرويد أدى بصداقتهما لتنتهي. وامتدت أبحاثه لتشمل علم اللاهوت والفلسفة وغيرها خارج نطاق علم النفس.

    توفي كارل يونغ في السادس من يونيو 1961 بعد صراع قصير مع المرض عن عمر 85 سنة. كان قد تعرض لنوبة قلبية في 1946، وشخص بمشاكل في الدورة الدموية. دُفن كارل غوستاف يونغ في زيورخ بسويسرا.

    مفهوم الظل ببساطة.

    يرى يونغ أن كل شخصية بشرية تتكون من الأنا الواعية، اللاوعي الشخصي الذي يحتوي على الذكريات ومنها المكبوتة، واللاوعي الجماعي الذي هو عبارة عن موروث يضم كل المعارف والتجارب التي يتشاركها كل البشر.

    ويرى أن كل الأفكار الكبرى في تاريخ البشرية من فلسفة واقتصاد ودين تعود إلى هذا اللاوعي الجماعي، حيت أن إخراجها من اللاوعي إلى الوعي هو ما أعطاها قوتها وجعلها أساسية في عالمنا اليوم. ويقول أن مهمة الوعي ليست فقط معرفة العالم الخارجي، بل تجسيد العالم الداخلي بصورة واعية.

    حدد يونغ أربعة أنماط شخصية كبرى، أولها القناع (Persona)، الذي هو التجسيد الواعي للشخصية الذي يتماشى مع ما يريده المجتمع. بصورة أخرى، هو الطريقة التي نقدم بها أنفسنا للمجتمع.

    يتطور نمط القناع ليقمع كل سلوك أو شعور أو دوافع فطرية غير مقبولة اجتماعيًا. يساعد هذا النمط على الاندماج مع المجتمع، لكن البقاء طويلًا تحت مظلته يؤدي إلى فقدان مفهوم الذات الحقيقية.

    ثانيها، الظل.

    وهو الوحش الصغير الذي بداخل كل فرد منا. هو حسب يونغ كل ما كبتته أخلاق الفرد نفسه وتصوراته والمجتمع داخل لاوعي الفرد، ويضم خصوصًا الناحية الجنسية والغرائز والنواقص ونقاط الضعف. فقد يضم العنف، والحسد، والتكبر، وغيرها من الصفات الدميمة التي يتكبر المرء من الاعتراف بتواجدها داخل ذاته.

    اقترح يونغ أن هذا الجانب يظهر في الأحلام على شكل وحش أو أفعى أو أي شكل غريب وهمجي. لكنه يظهر كذلك في زلات اللسان والانفعالات والهيجان. كما أن الظل لا يحتوي على ما هو سلبي فقط، بل يمكن أن يكون ملاذًا للأفكار المبتكرة والسمات الإبداعية التي عوقبت بالكبت فقط لأنها تتحدى أخلاق الفرد أو أفكار وتقاليد المجتمع.

    ثالثهم، الأنيما والأنيموس.

    يرى كارل يونغ أن في الذكر انطباع أنثوي سماه الأنيما، وفي الأنثى انطباع ذكري يدعى الأنيموس. وأن ثنائية الأنيما والأنيموس داخل الفرد تمتل الذات الحقيقة أكتر من تمثيلها للتصور الذي نعطيه للآخرين. فاللاوعي الفردي والجماعي والتأثيرات المجتمعية ساهمت في تحديد أدوار كل من الأنيما والأنيموس، وكذلك ميولاتهم الجنسية والجندرية، وعُمّقت هذه الأدوار بالتجارب الشخصية داخل الأسرة والبيئة المحيطة.

    يرى يونغ أن تثبيط اكتشاف كل من الجانب الأنثوي لدى الذكر، والجانب الذكوري لدى الأنثى يؤدي لتقويض عملية تكوين الذات والتفرد.

    ورابعهم، الذات.

    وهي تزاوج كل من الوعي واللاوعي داخل الفرد، وتشكل حالة الكمال والتكامل التي يسعى إليها يونغ. وعادة ما متل الذات بدائرة أو مربع.

    رأى يونغ أن التنافر بين الوعي واللاوعي يؤدي للمشكلات النفسية، وأن ابراز هذه الأخير نحو الوعي ومواءمتها في الوعي جزء ضروري في علمية تكوين الذات.

    كما يجدر الذكر أن أنماط الشخصية اليونغية لا تنتهي في الأربعة المذكورة أعلاه، بل تختلف من فرد لفرد ومن مجتمع لآخر، فنجد على سبيل المثال لا الحصر، نمط الأب الذي يرمز للسلطة والصرامة، ونمط العذراء الذي يتسم بالبراءة والرغبة والنقاء.

    لماذا تحولت السرقة إلى عملية قتل واغتصاب؟

    يقول كارل يونغ: " ما لا نَجلبِه إلى نورِ وعينا يَظهر في حياتنا كَمصير".

    في صباح يوم صيفي في 13 يوليوز 2007، ستيفن هايز (Steven Hayes) وجوشوا كوميسارفيجسكي (Komisarjevsky Joshua)، سارقان معروفان لدى بلدة شيشر (Cheshire) وسط ولاية كونيكتيكت الأمريكية (Connecticut)، قاما باقتحام منزل الدكتور ويليامز بغرض السرقة.

    يحكي جوشوا في اعترافه، أنه وقف على قبالة رأس الدكتور النائم في أريكة بعدة دقائق قبل أن يقرر الإجهاز عليه بمضرب على رأسه. هذه الضربة كانت كفيلة بأن توقظ الدكتور ويليامز من أحلامه بصراخ، استجاب له السارق بسرعة، بضربه مجددًا لكن بقوة أكبر، أخرسته.

    بعد الضرب المبرح الذي تعرض له ويليامز، قاما السارقان بربط يديه وقدميه، قبل أن يقوما بتفتيش بقية المنزل. في الدور العلوي لهذا الأخير، اكتشف السارقان جينيفر زوجة الدكتور، وهايلي ابنتهما البالغة 17 سنة فقط وميشيلا البالغة 11 سنة. قام جوشوا وستيفينز بربط الثلاثة بالسرير.

    في السابعة صباحًا قام ستيفن بالذهاب لمحطة وقود واشترى 4 غالونات منه. وفي التاسعة والنصف، أخد جينيفر إلى المصرف لتخرج 15 ألف دولار من حسابها المصرفي. إلى الآن لم تعرف جينيفر أن السارقان قاما بالاعتداء على زوجاها وبالتالي لازالت تظن أن العملية عملية سرقة فقط. في هذه الأثناء، قام جوشوا، بأخذ صور عارية لميشيلا البالغة 11 سنة والاستمناء أمامها.

    بعد أن عاد ستيفنز وتقاسما المال بينهما، اتفقا على أن على ستيفن أن يأخذ جينيفر إلى زوجها، ليس لإطلاق صراحهما، بل من أجل أن يغتصبها. وهذا ما حدت قبل أن يقوم بخنقها. في خضم هذه الأحداث، لاحظ الرجلين أن الزوج قد فك أغلاله وهرب. فما جال في خاطرهما إلا أن يقوما بإضرام النار في المنزل.

    للأسف، لم ينجوا سوى الدكتور الذي استطاع الفرار من هذه الجريمة. وحين سُئل هايز من طرف المحققين لماذا لم يفك وتاق الفتاتين قبل أن يشعل النار، أجاب "لم تخطر هذه الفكرة على بالي".

    قد يبدوا للوهلة الأولى أن المجرمين لا يستحقون الرحمة، بل حتى أن الإعدام شنقًا رحمة وعقاب لطيف مقارنة بما اقترفاه من جرم. لكن، هايز حاول الانتحار، وندم ندمًا شديدًا على فعلته. وأقسم مرارًا أن القتل والاغتصاب حدتا دون تحكم منه. أما جوشوا، فتعرض مرارًا للاغتصاب حين كان صغير السنة، ونفسيته المحطمة لم تجعل منه سوى عرضة للتنمر والتجنب طيلة حياته.

    بيت المقصد هنا، أن الجريمة في الأصل كانت بنية السرقة لا غير، لكنها تحولت لقتل واغتصاب دون أنف السارقين، لماذا؟

    يجادل سام هاريس في كتابه إرادة حرة، أن الرجلين لم يكونا حرين في اختياراتهم ذلك اليوم المشؤوم، حيت أن جذور وعيهم وقراراتهم تمتد للاوعي ولظلهما المليء بتجارب شريرة كانا هما الضحية فيها، وأن الوعي، ما هو إلا مرآة أو شاشة للاوعي كل منا. والذي يدوره يتكون من لاوعي فردي متعلق بالذكريات والتجارب الشخصية، ولاوعي جماعي يحتوي على الظل الذي يجسد العنف الحيواني الكبوت والذي يصارع للخروج بطريقة أو بأخرى.

    الظل قوي، ويمكن أن يخرج للعلن في تصرفات شديدة العنف وحيوانية قد تأدي لأدية النفس والغير. لكن، التحكم به ممكن، وإدماجه في الوعي غاية كل إنسان يسعى للكمال.

    كيف تستعمل الظل لصالحك؟

    يجب على الفرد أن يدرك أن المهمة الأساسية في الحياة هي البحث عن الكمال لا المثالية، وأن الظل جزء لا يتجزأ من شخصية البشر. كما في قصة دكتور جيكيل والسيد هايد، الظل والانا يتصارعان في نفس الشخص، فلا بد أن يأتي وقت يظهر الظل للعلن، وكما السيد هايد، فإن مهمته الوحيدة هي تفريغ كل الكبت الداخلي من قمع وتنمر ونزوة جنسية بطرق عنيفة.

    أول خطوة لاستعمال الظل لصالحك هي تقبل وجوده، فهو ليس سوى المكبوتات من شخصيتنا، سواء في مرحلة الطفولة من طرف الأهل أو غيرها لاحقًا في حياة الفرد.

    الصدق مع النفس، في البداية، هو التَعرّف على ظلّ المرء. الظّل عبارة عن ممر ضيق، باب ضيق، لا ينجو أحد من انقباضه المؤلم ويصل بنا إلى بئر عميقة. لكن يجب على المرء أن يتعلم كيف يعرف ظله حتى يعرف من هو.

    ولا يجب أن ننسى أن الظل لا يحتوي فقط وفي كل الأحيان على الصفات السلبية فقط، بل حتى على صفات الابتكار والابداع التي قمعت من طرق الأهل، أو المربيين، أو المجتمع بدافع الحسد، أو الإحساس بالخطر. فالشخص الذي يعتمد على نفسه في كل شيء عادة ما يلام من طرف المجتمع لعدم اعتماده واتصاله مع هذا الأخير.

    لا توجد طريقة فعالة واحدة لدمج الظل مع النفس الواعية، لكن كقاعدة عامة، الظل هو كل ما قمعه الغير داخلك، لذلك يجب أن تقوم بكل ما يتعاكس مع بوصلتك الأخلاقية أو تقاليد المجتمع لتصل حقًا لظلك.

    بجانب عيش تجارب الحياة الواقعية، فإن الكتابة بصفة يومية عن خوالجك تعد طريقة ناجعة للتعرف على الذات، على أنماط التفكير والشعور، والتي بالإمكان تحليلها للتوصل ببعض صفات الظل الخاصة بك.

    فإن تقبلت ظلك في صفاتك السلبية، وقمت بتحليلها وتأثير أنماط فكرك وأحاسيسك على حياتك بصفة عامة، تكون قد قطعت الخطوة الأولى في التعرف على الظل الخاص بك. أما الخطوات الأخرى، فتأتي تباعًا وتختلف من شخص لآخر.

    وختامًا، لم تنل أعمال كارل يونغ الشعبية ولا البحت العميق الذي تستحقه، لما بها من تطرق للروحانيات والعلوم الزائفة والأساطير.

    لكن لمفهوم الظل بما حمله من تجسيد للرغبات والنزوات المكبوتة داخل الفرد وتأثيرها السيء عليه حين غض البصر عنها والجيد حين تسليط ضوء الوعي عليها، أهمية في فهم النفس البشرية فهمًا كاملًا.

    وإن كان بإمكان الظل أن يظهر على صورة أفعال تحدد مصيرنا، أو حتى تدميره كما في قصة المجرمين، فهل نحن فعلًا دوي إرادة حرة؟ هل الإنسان مخير في أفعاله أم أنه مسير بلاوعيه؟ وإن كان مسيرًا فما نفع العقاب إذن؟

    zakaria bychlifen

    zakaria bychlifen

    كاتب إبداعي

    فائز بالجائزة الأولى للقصة القصيرة في المغرب. مهتم بمواضيع تجعل القارئ يفكر.

    تصفح صفحة الكاتب

    اقرأ ايضاّ