باتشينكو، رواية ملحمية بأجزائها الثلاثة تعرض الفترة السوداء في كوريا
ملحمة باتشينكو

وقعت في عشق الأدب الياباني القديم منه والحديث، فقد أسرتني كتابات ناتسومي سوسيكي في البداية وثم أغرمت بكتابات هاروكي موراكامي أيضاً ، والفرق بين الكاتبين قرنٌ كامل ! وإن دلّ ذلك على شيء فهو أن الأدب الياباني ينبوع من الإبداع غزير لا ينضب عبر العصور ولا يتغير تميّزه الراقي على قارئه أبداً .
باتشينكو ملحمة يابانية مكونة من ثلاثة أجزاء تروي أحداث الاحتلال الياباني لكوريا من واقع أسرة كورية عايشت الحدث منذ بداياته بسردٍ شيّق سلس يعبر الأجيال ويخبر القصص عن كل فرد على حدى .
فترة الاحتلال الياباني لكوريا

تتحدث الرواية عن فترة كوريا اليابانية ، وهو مصطلح يُشير إلى الفترة التي خضعت فيها كوريا للحكم الياباني في الفترة الممتدة بين عامي 1910 و1945.
خضعت مملكة جوسون للنفوذ الياباني بموجب معاهدة اليابان-كوريا لعام 1876، وبدأ تحالف معقد من حكومة ميجي والعسكريين ورجال الأعمال بعملية دمج للاقتصاد والسياسة الكوريين باليابان. أصبحت الإمبراطورية الكورية محمية يابانية بموجب معاهدة اليابان-كوريا لعام 1905 وحُكمت الدولة بشكل غير مباشر من اليابانيين عن طريق الجنرال المقيم في كوريا. ضمت اليابان رسميًا الإمبراطورية الكورية من خلال معاهدة اليابان-كوريا عام 1910 دون موافقة غوجونغ الوصي على الإمبراطور الكوري سونجونغ. أسس اليابانيون شبه الجزيرة الكورية بصفتها مستعمرة خارجية لليابان تُديرها الحكومة العسكرية المتمركزة في كييجو التي حكمت كوريا بسلطة شبه مطلقة. أعطى الحكم الياباني الأولوية لييبنة كوريا (أي صبغ كل شيء بطابع ياباني)، مسرعًا بالتحول الصناعي الذي بدأ بإصلاح غوانغوم وبناء أعمال عامة ومواجهة حركة الاستقلال الكورية.
انتهى الحكم الياباني لكوريا في الخامس عشر من أغسطس عام 1945 بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية واحتلت القوات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي المنطقة. فصل تقسيم كوريا شبه الجزيرة الكورية إلى حكومتين ونظامين اقتصاديين؛ في الشمال تقبع إدارة سوفييتية مدنية وفي الجنوب تقبع حكومة كورية بقيادة الجيش الأمريكي.
تسلسل أحداث الرواية
تمتد أحداث الرواية لأربعة أجيال متعاقبة ، الام والابنة ، ثم ابن الابنة ومن ثم ابنه ، وتُفتتح الرواية بشخصية هي الأصل في وجود هذه العائلة وهو الأب ذي الشفة الأرنبية والتشوه في ساقه الذي يسبب له العرَج، يتزوج من شابة ريفية بسيطة ،وكانت كوريا تعيش بأجواء اقتصادية سيئة تدفع الأهالي لتزويج بناتهن لتخفيف أعباء توفير الطعام في حين ندرته في ذلك الوقت،ا وتقريبا كان هذا السبب أحد أقوى أسباب تزوج الفتاة بهذا الشاب رفيع الأخلاق ولكن ذي الخُلقة الخاصة .
أنجبت زوجته ثلاث أطفال بشفة أرنبية ، لكنهم كانوا يموتون بعد ولادتهم بفرة قصيرة، وهذا ما جعلها تخاف الإنجاب والمحاولة مجدداً، لكن وفي المرة الرابعة وُلِدت سونجا ، طفلة معافاة بشفة طبيعية وبصحة جيدة . كانت سبب الفرحة في ذلك المنزل الصغير وخاصة لأبيها، الذي كلما نظر إليها ولجمالها حمد ربه أن له طفلة جميلة كتلك وأخبرها بذلك دوماً ما جعلها تحبه وتنظر إليه كحبيب وليس فقط كأب .
إقرأ أيضاً : مراجعة لرواية "رقص رقص رقص".
1. تأزّم أوضاع البلاد ومراهقة سونجا

كانت الأوضاع الاقتصادية في البلاد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وبعد وفاة الوالد لم يكن هناك حل أمام والدة سونجا إلا أن تجعل المنزل نُزُل بسيط ، وكان دخله جيداً لهما ، على الأقل يقيهما من الموت جوعاً في أيام تندّر فيها العثور على الطعام حتى !
في هذه الفترات بدأت سونجا تدخل النضج وتكبر، ومن علامات النضج الصريحة لدى الأنثى هي تحرك المشاعر وميل القلب. كان هناك تاجراً يابانياً ينظر إليها طويلاً، ومرة بعد مرة جاهد كثيراً حتى قبلت التحدث إليه ، وهكذا وقعت سونجا ذي السادسة عشرة في الحب، وسلمت قلبها ونفسها ل" هانسو " ذي الرابعة والثلاثين ، وهنا تبدأ حبكة الرواية حين تكتشف سونجا أنها حامل ولا يمكنها إخفاء ذلك مدة طويلة عن أعين الناس من حولها، لذلك يكون الخيار لها وباقتراح من أمها أن تسافر وتبتعد عن الحي كي لا تثير الفضائح .
يتطوع قس شاب كان زبوناً في النزل لدرء العار عن العائلة ويعلن زواجه من سونجا ، ويقبل أن يكون الطفل على اسمه ، إكراماً لأمها التي آوته في أشد أيام البلاد صعوبة واعتناءها به حين أصابه السل.
وهنا تبدأ الأحداث بالتغير ، فتتحول سونجا المراهقة إلى عاشقة، ثم إلى أم نادمة ، ثم الزوجة، ثم بائعة الكيميتشي ، ثم الأم التي تعتني بطفلين وزوجها الذي في السجن، ثم الأرملة ، ثم المزارعة والراعية لصهرها ، ثم الراعية لأمها، ثم الجدة التي ترعى حفيدها وأخبار الجميع وترثي ابنها "نوا" .
2. ما تعرضه الرواية عن الفترة السوداء في كوريا

تسرد الرواية ما عانته كوريا وكابدته في فترة بسط السلطة اليابانية نفوذها فيها ، الكثير منها قد عايشته شخصيات الرواية مما يتيح الوضوح بشكل أكبر لتفاصيل تلك الصعاب ، و منها :
- تأثير الحروب .
- التهجير السكاني .
- قلة الطعام والجوع .
- طمس الهوية الكورية .
- حلٌم أكل الأرز الأبيض .
- إذلال الشعب الكوري بذريعة السلطة .
- تحكم رجال العصابات بالسلطة .
- لقمة العيش صعب المنال .
- الخيارات المحدودة للكوري .
جمالية السرد الزمني في الرواية
تحاكي الرواية كل تلك المصاعب على كل شخصية على حدى في هذه الملحمة العظيمة، وتبقى معهم على مدى السنوات ومرورها عليهم فيشعر القارئ وكأنه يشاهدهم بآلة زمن تغير كل شيء بسرعة غير مبتذلة، وتنقلب فيها الأحداث مرة لمسرّات ومرة للحظات مُرّة ، يعايش طفولتهم ونضجهم وشبابهم وهرمهم، تماماً كسلسلة متكاملة من الأحداث التي كوّنت حياةً ما ، دون إغفال أي تفصيل أو حدث ، حتى تشعر في نهاية الملحمة أنك عايشت شخوصها فعلاً وكنتَ معهم منذ بداية رحلتهم حتى نهايتها .

كعادتي ، الأدب الياباني هو مساحة العشق الخاصة بي ، ولا يسعني ألا أُفتتن بإبداعه المتجدد دوماً كلما قرأت روايةً جديدة منه .
عِبر كثيرة تؤخذ من تلك الملحمة الرائعة، تاملات نفسية وقوالب تفكير يٌنظر لها بعين الرضا تماماً ، كل شيء تغير في الرواية عبر مظرور الزمن في الصفحات التي نقلبها وتمشي بنا في الرواية عاماً إثر عام ، إلا حب "هانسو" ل "سونجا" ، ذلك الحب الذي نشأ بين رجل في الرابعة والثلاثين وفتاة في السادس عشرة واستمر لسبعين عاماً ببراهين عدّة كانت "سونجا" تحاول دحضها مراراً، لأنه لم يكن يهمها في العالم سوا ابنيها "نوا" و "موزاتسو" .
تقييمي للرواية هو 10/10 لأنها لا تفتقر لأي عنصر من عناصر كمال الرواية ومحاورها وسردها، بل فيها أكثر من أي عمل ملحمي آخر من تفاصيل وأحداث وتتابع تزخم بها الصفحات بشكل مشوّق واستثنائي .