المساعدات الإنسانية في غزة بين عسكرة الاحتلال وحصانة الوعي الجمعي

تُعد المساعدات الإنسانية إحدى الأدوات التي يفترض أن تستند إلى مبادئ الحياد والإنصاف، غير أن الواقع الفلسطيني، ولا سيما في قطاع غزة، يكشف عن انحرافات خطيرة في هذا المفهوم عندما تُخضع المساعدات لمنطق الحرب وأجنداتها السياسية. فالاحتلال الإسرائيلي لم يتعامل معها باعتبارها استحقاقاً إنسانياً، بل استثمرها كجزء من أدوات الصراع، بما يخدم أهدافه في الضبط والسيطرة وإعادة تشكيل البنية الاجتماعية الفلسطينية.
عسكرة المساعدات الإنسانية
وفّر الاحتلال الإسرائيلي نموذجاً حيّاً لعسكرة المساعدات الإنسانية، إذ لم يخرج توزيعها عن سياق الحرب الشاملة على غزة، بل أصبح جزءاً من منظومة الحصار والابتزاز. فالتحكم في منح المساعدات أو منعها صار وسيلة لإخضاع السكان، وضبط ولاءاتهم، وتفكيك نسيجهم الاجتماعي. ويعكس هذا الاستخدام تحوّلاً خطيراً في وظائف الإغاثة، إذ لم تعد أداة لإنقاذ الأرواح، وإنما وسيلة لتكريس الهيمنة والسيطرة، في تناقض صارخ مع الأعراف الإنسانية والقانون الدولي الإنساني.
أشارت منظمات غير حكومية، من بينها "أكشن إيد"، إلى أن "المساعدات المستخدمة للتستر على العنف المستمر ليست مساعدات، بل هي غطاء إنساني لإخفاء استراتيجية عسكرية للسيطرة ونزع الملكية".
تأثير سياسات المساعدات على الصورة النمطية للمجتمع الفلسطيني
إن ما يحدث على الأرض في سياق توزيع المساعدات الإنسانية في غزة يعكس بوضوح استراتيجية الاحتلال في استغلال الاحتياج الإنساني لتقويض منظومة القيم المجتمعية وإضعاف الالتفاف الشعبي حول المقاومة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المقارنة بين نموذجين متناقضين:
النموذج الأول: مشهد اصطفاف منظم أمام نقاط توزيع المساعدات، دون تدافع أو اقتتال، حيث يحصل كل شخص على نصيبه دون زيادة، ويشارك من حصل على المساعدة بما لديه مع من لم يحصل، في سلوك يعكس روح التضامن والإيثار. هذا النموذج يقدم صورة مجتمع حضاري يستحق الاحترام والنصرة، وهي صورة لا تتوافق مع السياسات الاستعمارية للاحتلال.
النموذج الثاني: مشهد الفوضى والتدافع، وقيام بعض الأفراد باستخدام القوة أو الأسلحة للسيطرة على المساعدات، إما بدعوى الدفاع عن النفس أو بغرض الاحتكار والبيع بأسعار مرتفعة، إلى جانب تدخل عناصر وظيفتها إثارة الفوضى وتأليب الناس على المقاومة. هذا النموذج، وهو الأكثر حضوراً حالياً، يخدم الدعاية الإسرائيلية التي يرددها مسؤولون مثل وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حين وصف الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية".
ويتشكل هذا النمط من عدة فئات:
- المحتاجون الحقيقيون الذين دفعتهم الضرورة للذهاب لهذه المساعدات.
- اللصوص الباحثون عن الربح.
- العملاء الموجهون لخدمة أجندات الاحتلال.
- وفئة من الجهلة الذين ينساقون دون وعي.
إن مشاركة أي فرد في إنتاج هذه الصورة السلبية، عن قصد أو غير قصد، تمثل غطاء لتحركات الاحتلال، وتساهم في إضعاف صورة المجتمع الفلسطيني وقضيته العادلة. ومن ثم، فإن مسؤولية المحتاجين الحقيقيين تقتضي الحذر من الانخراط في ممارسات تضر بمنظومة القيم، أو تخدم خطاب الاحتلال.
الوعي الجمعي كسد منيع
أمام هذه السياسات، يتبدى الوعي الفلسطيني كعنصر مركزي في مقاومة محاولات الإخضاع. فالوعي هنا لا يُختزل في الإدراك المجرد للواقع، بل يتجلى في سلوك جماعي قادر على إفشال أدوات الاحتلال الناعمة والخشنة على حد سواء. إذ تُستخدم المساعدات الإنسانية في غزة كأداة عسكرية وأمنية لإعادة تشكيل المجتمع وتفكيك روابطه، وضبط الولاءات عبر التحكم في منحها أو منعها وفق شروط سياسية وأمنية. وهذا الإدراك يجعل الوعي الفلسطيني الصخرة التي تتحطم عليها كل مؤامرات الاحتلال.
تحاول إسرائيل نسج مشروع قديم بثوب جديد، مشروع الوكيل المحلّي، أو "العميل المستتر"، الذي يرتدي قناع الإغاثة، لكنّه في العمق أداة للتحكّم بالوعي الجمعي وتعظيمه قوةً يُسعى منها إلى تفكيك إرادة المقاومة مادّياً ومعنوياً.
خاتمة
إن عسكرة المساعدات الإنسانية في غزة تمثل خرقاً لمبادئ الحياد الإنساني، وتكشف عن استخدام الاحتلال لكل الوسائل الممكنة لتطويع المجتمع الفلسطيني. ومع ذلك، فإن صمود الوعي الجمعي يشكل الحصن الأهم في مواجهة هذه السياسات، ويؤكد أن المعركة ليست فقط معركة سلاح، بل معركة وعي أيضاً. وهذا يفرض على المؤسسات الدولية مراجعة جادة لآليات إيصال المساعدات، وضمان تحييدها عن الصراع السياسي، بما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه.
المراجع

"مؤسسة غزة الإنسانية": "عرض ساخر" أم "حلّ حقيقي" لشبح المجاعة الذي يخيم على القطاع
تستعد منظمة غير حكومية تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية"، مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، لتولّي مهمة إيصال المساعدات إلى قطاع غزة
تصفح المرجع
منظمة دولية تحذر من خطر عسكرة المساعدات لقطاع غزة
حذرت منظمة “ترايل إنترناشونال”، وهي منظمة غير حكومية معنية بمكافحة الإفلات من الجرائم الدولية، من خطر عسكرة المساعدات لغزة، وطالبت سويسرا بالتأكد من عدم مخالفة “مؤسسة غزة الإنسانية” القانون الدولي.
تصفح المرجع
عسكرة توزيع المساعدات في غزة: مأسسة تسليح المساعدات وإعادة ترسيخ الوجود العسكري الإسرائيلي
أقرّ مجلس الحرب التابع للمنظومة الإسرائيلية في 5 أيار 2025، خطة جديدة لتوزيع المساعدات الإنسانية، تقضي بإلغاء الآلية التي تشرف عليها الأمم المتحدة، واستبدالها بنظام تديره جهات خاصة من المتعاقدين العسكريين الأمريكيين، وقوات الاستعمار الإسرائيلية، وكيان مسجّل في سويسرا. هذه الخطة لا تعكس توجها إنسانيً...
تصفح المرجع
الضمير: عسكرة المساعدات وتسييس الإغاثة الإنسانية في غزة تعرض حياة المدنيين للخطر وتعرقل العمل الإنساني - مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان
الضمير: عسكرة المساعدات وتسييس الإغاثة الإنسانية في غزة تعرض حياة المدنيين للخطر وتعرقل العمل الإنساني
تصفح المرجع
توزيع أو "فن إدارة" المساعدات: كيف يتعامل الجيش الإسرائيلي مع المساعدا
تُعد المساعدات الإنسانية جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الإسرائيلية، لا باعتبارها عملاً إغاثياً بحتاً، بل كأداة سياسية وعسكرية متعددة الوظائف. وقد استخدمتها
تصفح المرجع