الكتابة المقيدة تمرين على تحرير الإمكانيات اللغوية
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولخلال ستينيات القرن الماضي، تشكلت مجموعة من الكتاب و الشعراء بل و علماء الرياضيات حول فكرة وضع قيود من نوعية خاصة على الكتابة. لم تكن هذه المجموعة تيارا أدبيا أو مدرسة فكرية، بل انطلقت من فكرة تتمثل في كون وضع شروط لغوية على الكتابة يخرج هذه الأخيرة من مجال اللاوعي إلى مجال الجهد في انتقاء الكلمات و ترويض اللغة لتستجيب لشروط موضوعة سلفا.
عملت هذه المجموعة من الكتاب ضمن إطار عرف بOULIPO و هو اختصار لOuvroir de Litterature Potentielle أي مفتاح الكتابة المحتملة. من أهم رواد مختبر الكتابة هذا Raymond Queneau و Georges Perec صاحب الرواية التحدي "الإختفاء" و عنوانها الأصلي بالفرنسية" La disparition". على امتداد صفحات و فصول هذه الرواية لا وجود لحرف"e" و هو من أكثر الحروف استخداما في اللغة الفرنسية. لقد وضع الكاتب مسبقا على نفسه قيدا متحديا نفسه و ملزما إياها بحكاية الأحداث باللجوء إلى تراكيب سليمة و رصيد لغوي لا يتضمن الحرف المحظور.
محاولة في تجريب الكتابة المقيدة: نص قصصي بلا باء و لا نون
أضع بين يدي القراء هذه المحاولة/التجربة في حكي قصة ألزمت فيها نفسي بعدم استخدام حرفي الباء و النون، و هما حرفان متوسطا الشيوع في الإستعمال داخل اللغة العربية. هو تحد رفعته أمام نفسي و تجريب أحاول من خلاله أن أستكشف ما تتيحه اللغة من إمكانات و احتمالات.
صحيفة اليوم
مع زحف العشية، يساور فؤادي قلق تزرعه، وقت كل ظلمة، أطياف مفزعة تعودت طرح أسئلة حارقة. تطوف حولي و تخترق مقلها الوامضة أغوار روحي حتى أرى أسراري إزاءي صفحة سافرة.
صارت هذه الزيارة الليلية طقسا مألوفا أتجرع خلاله مر الكؤوس مما لا يكاد يساغ. ها هو ذا الطيف الرئيس يشرع في جلسة التحقيق:
- ما اسمك؟
- سمي خادم رسول الله، ذاك الذي روى الحديث. إسمي لا تعتريه وحشة و معه تتم الألفة.
- و ما اسم والدك؟
-المملوك الخاضع للقادر على كل شيء.
- أعلم كل هذا و أكثر. فقط ألتزم الإجراءات.
حدق في وجهي لحظات ثم عاود السؤال:
- أتعرف ما اقترفت يداك مذ طلعت شمس اليوم حتى توارت خلف الأفق؟ الصدق قل و لا تزعم غيره!
حرت في الردعلى الطيف الرئيس. هو لا شك يعلم ما فعلت. يرصد حركاتي صغيرها و عظيمها. ويحي كيف أصدقه و ما عدت أذكر فيم صرفت يومي و لا ما وجهت إليه سعيي و لا أي قوم صار إلى آدم أصلهم صادفت على الطريق. مجهد جسدي و عقلي خارت قواه، فسهوت و ما ظل عالقا في ذاكرتي إلا القليل. و في هذا اليسير لا أجد جرما و لا حيفا، فكيف أرد على السؤال؟
- لا أدري. حقا و صدقا، لا أدري. ككل آدمي أخطئ كل يوم. و لعلي أخطأت في يومي هذا ، فهو قد فات كسائر أيامي الماضية.
أومأ الطيف الرئيس إلى طيف يحاذيه، فأخرج هذا صحيفة في محفظة ثم عرضها علي و قال:
- اقرأ صحيفة يومك! اقرأها و ع ما فيها حرفا حرفا و كلمة كلمة!
أخذت أقرأ و العرق يسيل عل جسدي المرتعش. قرأت فدمعت مقلتاي و أجهشت. أقرأ و أرتجف، و على هذا الحال ظللت حتى صعقت و لم أعد أحس ما حولي و اجتاح كل خلية في جسدي خدر حتى امتدت إلي يد رقيقة الملمس فهزت كتفي هزا خفيفا.
- قد دعي لصلاة العشاء.
رأيت صغيرتي التي قطعت رقدتي فقمت مستغفرا خالقي و قد عزمت على غد صحيفتي فيه أفضل.