أرى حقيقة القوة لا في السيطرة أو التحكم أو أن تكون باطشًا مستبدًا يخافك الآخرون أو أن تملك مالًا طائلًا يُسيِّدُكَ مكانة زائفة بين القوم فتكون مهيب الجانب بمالًا إن ذهب أذهبك وإن بخس أبخسك وإن فنى أفناك، ومن ذلك أمثلةً لا تُعد ولا تحصى.
ظنوا أنهم أقوياء

أكم من مُلوك ورؤساء آل بهم المآل إلى سجون وجحور وقبور أو دور كالقبور بعد أن بلغ ظلمهم وطغيانهم حد الفجور فثارت عليهم أُممهم حتى كسرت لهم الرقاب وذُلُّوا بظلمهم وطغيانهم.
أكم من أصحاب بطشٍ سادوا الأقوام على مر الدهور والأعوام والتاريخ لا ينسى ولا يغتفر، قائمٌ شاهد على مصيرهم القاتم ولم ينسى القاهر فوق العباد ولم يُهمل إنما يُمهل فأنزل عليهم رجسٌ من بطشهم أطاح ببطشهم وخسف بسيادتهم وأذلَّ عزهم.
أكم من أصحاب مال غرهم الزمان بمالهم واشتهوا لجوء المحتاج لمتعة امتهانه وعوزة الأنام لحاجاتهم فاغتبطوا بتميزهم بنعمة ما كانت من صنعهم بل آتاهم الله فضلًا ليحسنوا فجحدوا واغتروا واستبدوا وعاثوا فسادًا وتجبروا فذهب الله بمالهم لإثمهم ومعه سلطانهم وامْتُهِنُوا بما كانوا يَمْتَهِنُون.
الأقوياء الحقيقيون

إن القوة الحقيقية أراها في شخص محطم القلب يتيم الروح مشوه النفس ومع هذا التحطم واليتم والتشوه قادر على أن يبتسم وينجح ومازال يبهر الآخرين بقدراته وامكانياته، أو في شخص كانت له القدرة على أن يتقبل عدم تقبل الآخرين له وعدم اكتراثهم لوجوده وتجاهلهم لأمره ومازال يتعايش مع تلك الفكرة المؤلمة المضنية أو قل المميتة إن شئت بأنه غير مؤثر وغير مرغوب وأن وجوده لا يشكل فارقًا عن عدمه، أو في قلب شجاع قادر على أن يصرح بحبه عندما يحب وقادر على تقبل رفض محبوبه لحبه وما أشجى هذا الشعور وما أقسى التعايش معه، أو في صلابة عين تأبى البكاء ومدامعها ملئانة حتى الفيض، أو في إنسان تشرذمت أشلاء روحه ممن عرف من البشر ومما رآه من هؤلاء البشر ومازال محافظًا على أن لا يتغير للأسوء متمسكًا بأن لا يكون كهؤلاء البشر، موثرًا أن يظل إنسان.
هؤلاء البسطاء هم الأقوياء، أب يسعى إلى قوت عائلته بشرف وأمانة، أم تنشئ جيل من الأفاضل الخلوقين ليكونوا ذرية صالحة نافعة لها ولأنفسهم وبذرة طيبة عطرة لوطنهم وللإنسانية، شاب عَسُرَتْ أمامه الحياة فأبى الاستسلام وآثر الفلاح على النواح وكافح بجد وإخلاص وما نسى أن الله لا يضيع الأجر وما فتر من قوله ( إن مع العسر يسرا )، فتاة حافظت على عفتها وأبت الانزلاق في منحدر الأخلاق الذي انزلق فيه كثيرات من مُدَّعيات الحرية وما كان التبرج والانفلات من الحرية في شيء إنما هي فتنة صُدّرَتْ لهدم أمم عصامها الشرف وتاجها الأخلاق.
ختامًا
القوة لا تحتاج إلى سلطة بل إلى الرحمة والبسمة الوديعة الصافية، لا تحتاج إلى جيش وسلاح بل إلى العمل والكفاح، لا تحتاج إلى ذهب وفضة بل إلى التربية والأخلاق، لا تحتاج إلى حُلي وأردية بل إلى القلم والكتاب.