القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

رغد  حمزة
محامية، كاتبة، مدوِّنة
نشرت:
وقت القراءة: دقائق

أمةُ "اقرأ" وكلنا فخر، فما بال هذه الأمة ابتعدت عن لقبها وأسمى ما تتسم به؟ إذا كنت ممن يحاولون الدخول إلى عالم القراءة وتبحث عن محفزٍ ما أو حجة لإقناعك بتزجية وقت لا بأس به بين دفَّتي كتاب، فإني أتمنى من كل قلبي أن تجد في هذه المقالة ما يحفز عقلك المشرق لتنضم إليّ وإلى مجتمع القارئين الجميل، ليس فقط لتكونَ واحداً منا، بل لتشعر بلذةِ الكتب، والقراءة، والاكتساب التلقائي.

القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

ما هي القراءة:

القراءة علمياً عملية معرفية تستند إلى تفكيك رموز تسمى حروفاً لتكوين معنى، والوصول إلى مرحبة الفهم والإدراك، وهي وسيلة استقبال معلومات الكاتب أو المرسِل للرسالة واستشعار المعنى المطلوب. أما أدبياً، فقال طه حسين عميد الأدب العربي : "وما نعرف شيئاً يحقق للإنسان تفكيره وتعبيره ومدنيته كالقراءة، فهي تصور التفكير على أنه أصلٌ لكل ما يُقرأ. وقال الجاحظ:" إن الكتاب يُقرأ في كل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويذهب العقل ويبقى أثره. وقالت الروائية ترولوب:" عادة المطالعة هي المتعة الوحيدة التي لا زيف فيها، إنها تدوم عندما تتلاشى كل المتع الأخرى. وقال الكاتب المسرحي بن جونسون :" اللغة هي أكثر ما يُظهر المرء، فلتتكلم حتى أراك ".

ماذا عن ديننا الكريم؟

أول كلمةٍ قد نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قرآننا الكريم هي " اقرأ". وقد رُويَ في السيرة النبوية أنه بعد معركة بدر كان المسلمين قد أخذوا عدداً كبيراً من أسرى المشركين، ووقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم على أي مشرك يريد إطلاق سراحه أن يعلم عشرةً من المسلمين القراءة والكتابة وله حريته، وهو الدليل الأقوى على اهتمام الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام بالعلم والقراءة والمعرفة. كما كان للصحابة الذين يجيدون القراءة والكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكانةً خاصة، إذ أنهم كانوا كُتّاب الوحي، وكذلك الرسائل للملوك والقبائل الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم كي يدعوهم للدخول في الإسلام. أما عملياً ومن جانبِ شخصٍ يهوى القراءة، فيمكن أن أعرفها أنها المخاطبة الصامتة، المرتفعات والوديان، الخيال الخصب و الحقيقة والواقعية، هي حيث يتمرن العقل بمختلف الأدوات بتنوعها اللامحدود، ويثري كل لفائفه بمواد دسمة تقوده حيث التطور والاختلاف والخبرات التي لم يكن يعرف عنها شيئاً من قبل، إنها تزجية الوقت في التعلم واكتساب المعرفة بكل متعة، وهذا ما لا يحدث دوماً أثناء عملية التعلم التقليدية، لكنك هنا تقرأ وتنمي حقل معارفك بملئ إرادتك، وهذا ما سينعكس عليك إيجابياً في الوقت الذي ستقضيه وبنوعيته كذلك.

القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

لماذا يجب أن نقرأ :

في الحقيقة إن أكبر مستفيد من عملية القراءة في المرتبة الأولى هو العقل – الدماغ، علمياً وعملياً، حيث وُجد علمياً أن القراءة تؤثر على صحة الدماغ ومن شأنها تقليل خطر الإصابة بالزهايمر والخرف مع التقدم في العمر، فهي تساعد على تنشيط الدماغ والحفاظ على عمله وانخراطه في الكثير من العمليات مما يمنع فقدانه للطاقة أو إصابته بالكسل. وأما عملياً، فإن فوائد القراءة تكاد تكون من أكثر المعلومات شعبيةً بما تزيده في العقول من معرفة وعلم وغزارة معلومات، وطبعاً بالإضافة إلى جعلها القارئ مفكّرٌ ومتحدّثٌ مميز يلفت الأنظار معظم الوقت بمصطلحاته الغنيةِ والفريدة، وطريقة تفكيره اللاتقليدية، ذلك لكونه ليس نمطياً، فقد قرأ وتعرف على أنماط كثيرةٍ وعديدة، جعلت قراراته وسلوكه وتحاوره مبنياً على وُفرة من الاختيارات دون تقيّد بنوعية أو قالب معيّن.

القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

إلى أين توصلك القراءة :

تؤدي بنا القراءة إلى اكتشافات رائعة عن كثير من الأشياء التي نجهلها من حولنا وأولها: أنفسنا. إذ أن القراءة تكشف مواهب وجوانب من شخصيتك لم تعرفها ولم تتفاعل معها من قبل، تجعلك مدركاً لها ولمدى قصورها أو جودتها بك، فتعرف ما عليك القيام به حيالها إما بتحسينها والعمل عليها لتصبح أفضل بها أو لتدرك كم هي جيدة ولا يجب إهمالها كي لا تُفقد وتندم أنك لم تسعى لتطويرها يوماً لتصبح موهبةً أو قدرةً متقنة. والقراءة عبارة عن صحونِ ذهبٍ تقدِم لك خبرات حيواةٍ وعقولٍ كثيرة دون أدنى تحفظ أو محاولة إخفاء سر ما فيها، بل على النقيض من ذلك، فإنها عين الانفتاح في كل ما يحاول الآدميون تخبأته، لأنها تقوم على المشاركة لا التحفظ، كما أنها تعطينا وقتاً مستقطعاً من ضجة الحياة الروتينية وتركيزاً صافياً مع أنفسنا في الساعات الطويلة التي نقضيها بين دفّتَي كتاب، فننشغل عن الضغوط والتوتر المحيطَين بنا نتيجة المسؤوليات الملقاة على عاتقنا في خانات عديدة، وندخل عالماً مغايراً يخاطب شيئاً ما في دواخلنا.

للقراءة فوائد في الحياة:

للقراءة فائدة عظمى في تعليم النقد والحكم الجيد على الأشياء الذي يؤدي بنا إلى التفكير النقدي السليم الذي يفيد في كل مناحي الحياة، فبعض المعارف والأفكار لن تتعرف عليها في أي مكان سوى الكتب، لأنه ما من أحد لديه الوقت الكثير والبال الطويل لمجالستك ساعات محددة ليشرح لك نظرية صحيحة بناءً على خبرته وسنينه التي قضاها في التجربة، ويناقشك ويقنعك بالبراهين، لكن الكتاب فيه كل ذلك دون ساعة تنبهه بين الفينة والأخرى باقتراب نهاية الموعد المحدد بينكما، فإنه ببساطة بين يديك.

القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

الأطفال والقراءة :

في زمنٍ نرى فيه الطِفل ذي السنتين مستخدماً بارعاً للتكنولوجيا والهواتف الذكية دون أدنى صعوبة في تعلم تلك الكيفية بل بإقبال وحب شديدين يصعب أحياناً التعامل معهما، لابد وأن التحدي سيكون أصعب بمرات حين نقول بأننا نريد أن نعيد أطفالنا للكتب والورق من جديد! فنحن لا نتحدث خارج المنطق أبداً، فأنّى للطفل أن يرى ذلك الكرتون المتحرك بكل حيوية ذي الألوان الملفتةِ للعين حد الانشداه في صفحات كتاب ما؟ إن الهاتف يؤمن له ما يجذب عقله تماماً، لكن لغاية الإتلاف لا البناء، حتى ولو كان ما يشاهده مفيداً وكله منفعة، فإن الضرر يبقى موجوداً وبشدة، عينا الطفل، تركيزه المفرط في الشاشة والضوء المحدد، انزواؤه، و وصوله لمقاطع غير ذات صلة بالنفع الذي يشاهده، ومشاكل كثيرة تحيط بهذه الفائدة التي يدافع عنها بعض الأهالي عند إعطائهم تلك الأجهزة للأطفال معظم الوقت. حسناً، إذا كنا لن نتمكن من إقناع عقول أطفالنا التي لا تريد سوى الألوان والبهرجة بمخاطر هذه الأجهزة وأضرارها التي لن يظهر سوءها في القريب، فكيف سنعيدهم للكتب والورق؟

لا تأمر، فقط تصرف:

ببساطة شديدة، اقرأ أمامهم، حال الأطفال من حال أهلهم، إنه لسان الحال والذي يعد أهم من لسان الفم بكثير في التربية وخلق العادات وتجنب السيء منها، فالأطفال مراقبون نَشِطون دوماً لك ولحركاتك وعاداتك، ويأخذوا منها أكثر مما يأخدوا من أوامرك وتحذيراتك لهم، فعندما تقول لابنك مراراً لا تفعل ذلك ويراك تفعله بالتأكيد لن يكف عن فعله، فأنت تفعله أمام عينيه كيف له ألا يقلدك؟! ببساطة لن يفعل، إنه لسان حالك، والطفل ينتبه لما يراه أكثر مما يسمعه. أمسِك كتاباً أمام طفلك، وستراه يحذو حذوك مقلداً جلستك وطريقة مسكك له، وقد يرغب بتقليدك إلى درجة أن يطلب كتاباً نفس كتابك وصفحاته الكثيرة، لا الصغير ذي الرسومات والصفحات القليلة! هل تتخيل مدى التأثير! فقط تأثير حبك فيه يجعله يخطو في طريق الفائدة والعادة المثمرة دون أدنى فكرة منه أن هذا شيء صحيح ومفيد فعلا أم لا، وبنفس الطريقة نجد أطفالا يقومون بأفعالٍ غريبةً و شنيعة لا نصدق أنها تخرج من طفل، ليست تصرفاته، بل هذا ما قد رآه من بيئته وأهله وقلدهم بها ويكبر عليها، غذِّ هذه البذرة بفعلك قبل قولك، وليكن فعلك أمامه كما توده أن يكون حين يكبر. يحزن جداً ما وصلنا إليه من تقليل لأهمية الورق والقلم، إذ بنا ننظر الآن فعلاً إلى جيل لا ورقَي ولا كتابيّ البتة، فقد أصبحت أنظمة التعليم الحديثة جميعها تتخلى عن كل شيء مادي محسوس وتستبدله بالأجهزة اللوحية التي يُدخل إليها كل شيء بنقرة، إنه تطور ولسنا ضده بالطبع، لكن الفطرة لا تلغى، فأن نجعل الطفل مع مرور الوقت ينسى كيف يمسك القلم ويكتب على الورق لشيء مخزٍ حقاً في أمةٍ علماؤها جالوا بلداناً وقارات على مدار عقودٍ كاملة جمعاً لمعلومات قيمة كالكنوز ليخطوها على الأوراق ويفيدوا بها بشرية كاملة، وهو ما نحن فيه حتى يومنا هذا، كل تلك الحضارة والطب وتطور الأفلاك هو حصيلة تلك الكتب التي أخذت جهداً ووقتا وسهراً ولياليَ مضنية، فقط لتصل لمن بعدهم، لأنهم يعرفون أنه حين يصل المرء إلى معرفةٍ ما فعليه أن يشاركها حتى تصل إلى أكبر عدد من البشر في هذه الأرض وتعمّ الإفادة والخير.

القراءة، حُبّ المعرفة، ومعرفة الحُبّ

ما بين الكتاب والألواح المضيئة :

بالطبع لا يمكن ألا نذكر محاسن الكتب فيما لو قورِنت بالهواتف والألواح الإلكترونية، المسببة لأمراض العين وإجهادها وخاصة إن تحدثنا عن القراءة الليلية، إذ أكدت دراسات طبية إلى أن الأذى الذي يصيب العين فظيع حينما يكون البصر واقعاً على ضوء محدد وما حوله مظلم، ويؤدي ذلك على المدى الطويل إلى حالات خطيرة تصل إلى فقدان البصر، ناهيك عن آلام الرقبة والعمود الفقري بسبب الجلسة اللاصحية التي لا نتداركها الا بعد مضي مدة من الدقائق تصل أحياناً إلى ٦٠ دقيقة، اي ساعة كاملة، وما ينبهنا هو الألم الناتج من الوضعية التي نكون عليها. ومن زاويةٍ أخرى أرى أن القراءة من خلال الهاتف لن تلبث أن تستدرجك إلى غاية ٍ غير القراءة بعد فترة قصيرة، وهذا منطقي جداً، لأنك ما زلت ضمن إغراءات الهاتف والتطبيقات وكل ما هو هادرٌ للوقت دون أدنى شعور بكيفية حدوث ذلك! فلكأنك بيدك كتاب وفي يدك الأخرى لعبة وأمامك شاشة وفي خلفك حديث متبادل، لابد أن يتشتت انتباهك عما تقرأ وتدرك.

الكتاب هو الكتاب:

كان الكتاب منذ أقدم الأزمان ورَقاً، وامتدت القرون والعقود والسنين ومازال كما هو، فليس من السهل استبداله على من اعتاد ملمس الورق ورائحته، وفرحة شراء كتابٍ جديد، قد تكون الكتب التي على شكل ملفات او حتى الإلكترونية أقل تكلفة من الكتب الورقية على المدى، لكن وصدّق على كلامي بمرور السنين أطال الله عمرك وعمري، كثير من النسخ التي بين يديك يمكن لها أن تصبح كنوزاً مع الأيام، تتوارثها مع أحفادك وأجيالك القادمة أو مع أي راغب بالحصول على المعرفة ٍ المحددة التي لديك، تلك التي قضيت سنيناً من عمرك تبحث عنها وتُملي خانات مداركك منها وتحاول جاهداً الحصول عليها لبقائها كنزاً حياً بين يديك تعود له كلما أحببت.

لم تمر بي أبداً أية محنة لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة

آرثر شوبنهاور

أن نعود إلى الكتاب يعني أن نعود لأنفسنا، لأصولنا وعراقتنا، إلى مكتبات بغداد التي جعلت العالم كله مكاناً أفضل ولكن مع الأسف ليس من خلالنا، من خلالهم أولئك الذي يدركون قيمة تلك الكتب وأهميتها وما دُوّن فيها. لذا أرجوك، لنعد أمة إقرأ، ولنقتدي بعلمائنا الأكارم الذين تركوا لنا أفنَوا حياتهم في تجارب كرسوا الليالي والساعت الطوال ليخطّوا خيرها في الكتب، حتى يكونوا حاضرين في القرون المقبلة بفائدتهم ومعرفتهم التي أخذوها كي يُعطوها لا للاحتفاظ بها. لنقرأ، ولنكتب،ولِنغدو مفيدين لأمتنا بما تحويه عقولنا النيّرة حتى نكون خيرَ نبراسٍ في هذه الأرض.

رغد  حمزة

رغد حمزة

محامية، كاتبة، مدوِّنة

محامية وكاتبة عشرينية، عاشقة للكتب وكل ما يخصها من قراءة وتأليف وتحرير وتدقيق وحتى تصنيع، أحب مهنتي لكني أميل كل الميل لشغفي وأطوره، وكذلك لدي اهتمام بمجال ريادة الأعمال وتطويرها، أسأل الله أن يهديني إلى الصحيح في كل طريق حتى أغدو مثمرة مستثمرة في المجتمع ✨🤍

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ