الزيارة الأولى للكعبة؛ قف أنت في حضرة الوجل
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخوللم أتخيل أنني سأقع في حبها من النظرة الأولى، منذ أن وطأت قدماي الدرج المؤدي لساحات الحرم، وأنا أتلمس ظهورها في أي لحظة. مشيت ومشيت والقلب ينبض في اشتياق وترقب، ماذا ستكون ردة فعلي بمجرد أن أراها رأي العين، وهي التي لا تغيب عن مخيلتي أبدا، تتربع داخل قلبي وينبض قلبي بحبها.
مشيت ومشيت وأنا لا أعلم أي من الطرقات ستؤدي بي إلى هدفي المنشود، الذي لطالما انتظرته في كل يوم بأمل غريب وإصرار عجيب. كانت تتقافز إلى ذهني دعوات كثيرة وأمنيات، كل أمنية تفرض نفسها في ذهني، وتتدافع لتتسرب على لساني، تسابق كل واحدة أختها؛ أملا منها أن تكون المنطوقة الأولى عند رؤية الكعبة فتفوز بالاستجابة! أتساءل أي من الدعوات ستتحرر من لساني أمام الكعبة؟ حقا لا أعلم ولكني كنت أعرف في قرارة نفسي أن اللحظة المهيبة قادمة بوجل. بعد لحظات ربما كثيرة أو ربما قليلة، أنا لا أعلم في أي وقت ستنهل عيناي من رؤية الكعبة مع اتساع الساحات والممرات الواسعة، والدرج المتلاحق الذي سيفضي بي إلى صحن الكعبة. وبالمثل لم أعلم أي دعوة ستولد أولًا على شفتاي ليكتب الله لها الإجابة في رحاب الوجل، والعظمة والمهابة.
فجأة؛ وفي لحظة مهيبة لم أتوقعها رأيتها بين الأعمدة لا زال النزول إلى الصحن يستوجب مني مئات الخطوات، ولكن لا أعلم كيف رأيتها فجأة رجف قلبي بشدة واهتز كياني، ما هذا البهاء والجلال؟ ما هذه العظمة والجمال؟ شعور لا يوصف!
شعرت أن دقات قلبي تتسارع بشكل عجيب لدرجة شعرت معها أنه سيقف لا محالة، وشعرت أنني لا أستطيع أن أقف على قدماي، وددت لو أصرخ عاليا، أبكي بصوت جهوري، أجثو على ركبتي، كنت اجتهد ألا أظهر ردة فعلي واجعلها بين ثنايا قلبي، بيني وبين ربي! حتى لا يتسرب الرياء. وجدتني اتمتم وأنا في حالة لا أستطيع تسميتها أو وصفها: اللهم ارزقني الفردوس الأعلى!
الجموع الغفيرة التي كانت تتسابق للتراص في الصحن قادتني عنوة للمسير إلى الكعبة، وكأنها تقول لي انتظري أنت لم ترى شيئا. لا زال الوقت باكرا على السكينة والهيبة. أنت لم تنهلي بعد من الرحمة، ولم تحظي بالقرب الجميل.
اقرأ ايضا
قادني السير عنوة لأن انعطف ولكن يشرأب عنقي وقلبي مخافة توديعها. كالطفل الذي نزعته إحداهن من يدي أمه، يجاهد إن يقتنص صورة أخيرة لتلك التي همت بالرحيل، وترك القلب في غصة. دخلت إلى ممرات واسعة، ومعها درج وخطوات وخطوات إلى أن توقفنا في الدور العلوي، وبقيت الكعبة أمامي بشكل أكبر. لا أتذكر ماذا دعوت، ولكني سكبت الدعوات دفعة واحدة مخافة هروب المشهد في غفلة من الزمن. لا أستطيع أن أصف هذا السحر العجيب الذي سرى في وتيني. شعرت بخوف شديد كيف لي أن أعيش بعد أن أنصرف عن الحرم وأرجع لبلدي وأحرم من رؤية الكعبة.
شعرت بالحسرة وأشفقت على نفسي يا لألمي وشوقي الذي لن يهدأ إلا أمامها. الحواجز حالت بيني وبين النزول إلى الصحن. كان الفجر على وشك الميلاد، والعباد يتأهبون لصلاة الفجر، الجميع يتزاحمون لينزلون للكعبة حتى يصلون أمامها دون عائق ودون أي حاجز. لكن العسكر والمنظمين بالمرصاد، الحواجز تعيق الدخول بشكل كامل مع اكتمال الصحن بالمصلين، وتراص الرجال حول الكعبة دائريا بزي الإحرام الذي يهز القلب هزا.
في حياتي أمنيات ودعوات وأشخاص يسكنون في قلبي لا أبادلهم بكنوز الأرض، ولكن عند وقوفي أمام الكعبة لأول مرة شعرت أنه لا عزيز ولا غالي، كل الأحبة سواء من كانو بجانبي، أو من تركتهم في بلدي أتلهف لقياهم وأتمنى استنشاق عبيرهم. كل الأشخاص والمكتسبات التي خسرتها، كل المودعون عنوة أو برغبتهم، كل ما ذرفت عليه الدمع لفقده، كل ما أحببته وودعني، كل المستقبل والأمنيات التي أرجو من الله أن تتحقق، كل ما يتلهف قلبي لأن يكون رأي العين، الدنيا وما فيهم ومن عليها كلهم كلهم لم يعادلو الآن أي قيمة، وكأن قلبي أستشعر الآن معنى لبيك لا شريك لك.
شعرت أن قلبي فارغ من كل شيء، وأن ذاكرتي لتوها ولدت بيضاء ناصعة، وأن القلب لم يرى من قبل شقاء، وأقسمت ضمنيا أنه لا نعيم قط قد مر عليا الآن، وأنه لن يمر عليا نعيم قط أكثر بهاء من تلك اللحظة إلا عند رؤيتي لمقعدي بالجنة بإذن الله. لو قامت الساعة الآن لا أبالي ما دام استجاب الله لدعائي الأول، لم أشعر أنني أريد أن أعود لحياتي، أو أن شيء ينقصني، هل رأيت الجمال الذي يحبس الأنفاس؟ هل رأيت العشق الذي يذهب بالعقول؟ أنه أمامي الآن، إنها أحلى من القمر، حقا أنا أشعر بالخجل وأن أقارنها بأي شيء، إنها الفريدة حقا، يليق بها أن تكون الفريدة ساحرة القلوب والأبصار!
تسمرت في موضعي بوجل لا أحيد نظري عنها، كرهت تلك الأعمدة الذهبية التي تنتهي بالقباب لأنها تحول بيني وبين رؤية الكعبة كاملة. لا أعلم سر الجلال الذي أنا في حضرته الآن، الكعبة حجر والرداء الأسود الفتان هو مكون من خيوط نعم غالية الثمن، ولكنها بسيطة، ماذا يميز الجماد الشاهق، ولماذا الحلة التي عليه تجلب الهيبة والبهاء في القلوب؟ ولماذا رائحتها تأسر القلوب؟
كل ما أعلمه أن الفاتنة التي أمامي لم تكن غريبة عني، كانت في ماضي كمثل حبيبا غائبا عني، لكنه حاضر في ذهني واستشعر وجوده، ويقيم في ركن ما في القلب لا يتزحزح عنه، استلهم حضورها في كل صلاة، استقبلها وأتخيل حقا أنني أراها وأسجد لرب العالمين أمامها. استحضر صورتها كلما ضاقت عليا الدنيا وابتهل لرب العالمين أن يذيقني فرحة مجاورتها ولذة النظر إليها.
هي قدرة الله التي لا مقيد لها، سبحانه يفرض الحال ويجبر الجميع على إرادته. الكعبة شاهدة على تمام الانقياد لأمر الله، شاهدة على امتثال إبراهيم لله، وتصديق إسماعيل وهاجر لأمر رب العالمين. خلد الله سبحانه وتعالي ذكرهما إلى أبد الآبدين، وربط القلوب من كل أنحاء العالم بمواقف، وبقع لها قدرة سحرية إلهية على أن تأخذ بعقلك وقلبك وتهز كيانك.
على الرغم من كونها جماد لا يسمع ولا يرى، ويتسم بالبساطة، لا عجب وأنا أرى أن دعوة إبراهيم تتحقق وأرى رجاء الأب الحنون على ولده إن يعمر الله موضعه بالذرية الصالحة العابدة لله، والخير والأنس بالعباد إلى أن تقوم الساعة:
يليق بك يا خليل الله أن تُسمع دعوتك لقرون ودهر طويل، ولا زالت السنون تولد وتنطوي، والناس يتوافدون عند البقعة المباركة ليقيموا الصلاة، إنما يستجيب الله من الأوابين، يا خير الأوابين سلام عليك أبا الأنبياء.
ماذا أقول عن بدء الطواف؟! حلاوة وروحانيات جميلة لها وقع عزيز على النفس، تجربة مثالية من التجرد من الدنيا وزينتها. صفة رداء الإحرام بلونه وبساطته مشاهد من يوم البعث، يوم أن يخرج الناس من الأجداث، صحن الكعبة مشهد مصغر من لحظات الحشر. الوجل والرجاء، والهيبة والعظمة التي تلف المكان. لا أحد ينظر للآخر، الجميع متواجد بجسده لكن القلب والروح أكاد أجزم أنها متعلقة بأستار الكعبة رغم الزحام، و ربما يخيل إلي أن ثمة أرواح هربت عبر الأثير، في لفتة غير منطقية إلى البيت المعمور حيث عرش الرحمن.
هنا تتقلب الوجوه والأبصار طالبة العفو والمغفرة، هنا الهمهمات الممزوجة بالبكاء والنحيب والأصوات الأعجمية، التي تجتهد في ضبط مخارج الحروف ليماثل حديث العرب، هنا تتعالى أصوات الابتهالات والأدعية التي تهز القلوب الجامعة الشاملة، وأصوات تردد في وجل ... آمين
نسمة حسين
كاتبة محتوىأصيغ الكلمات من الخيال بمداد الحب والتفاني لتصبح أمامك رأي العين من القلب إلى القلب
تصفح صفحة الكاتب