الجسد الذي لا ينسَ : كيف تعيش الصدمة النفسية في مناعتك ؟
"التوتر النفسي لا يسكن في العقل وحده؛ بل يُرسل ذبذباته إلى كل خلية في الجسم، فيغيّر مناعتها، ويعيد برمجة استجاباتها كما لو أنها تتحدث بلغة جديدة."
المقدمة :
الصدمات النفسية لا تنتهي بانتهاء الموقف ، بل تترك بصمتها في نظام الجسد بأكمله . ففي اللحظة المؤلمة التي تمر بها معتقداً أن هذا الألم سيكون محصوراً في الذاكرة أو في القلب سيكون جهازك المناعي (وهو الحارس الأول للجسد) متأثراً في الصدمة النفسية أكثر مما تتخيل . وكما يُقال : "الصدمة النفسية لا تموت ، بل تعيش في خلايانا" . فترى آلاماً جسدية مزمنة دون سبب عضوي واضح ورغم زيارتك المتكررة للأطباء ، تبقى الإجابة غامضة ، السبب قد لا يكون فيروسياً ولا بكتيرياً - بل نفسياً عميقاً .
ما هي الصدمة النفسية ؟ (Trauma) :
تُعرف الصدمة النفسية بأنها استجابة نفسية لحدث صادم أو مهدد للحياة ، أو المرور بتجربة مؤلمة يصاحبها ضرر نفسي وربما جسدي ، يتجاوز قدرة الفرد على التحمل ، مثل : اعتداء ، إهمال عاطفي في الطفولة ، أو العيش في بيئة غير آمنة مثل الحروب مما يؤدي إلى توتر نفسي شديد طويل الأمد .
التأثير البيولوجي للصدمة النفسية على المناعة :
1. تنشيط محور HPA وتثبيط المناعة :
عند التعرض لصدمة نفسية أو ضغط مزمن ينشط الجسم محور الوطاء - النخامة - الكظر (HPA axis) ، مما يؤدي إلى زيادة مستمرة في إفراز هرمون الكورتيزول . هذا الإفراز المزمن للكورتيزول يسبب سلسلة من التأثيرات البيولوجية السلبية على جهاز المناعة ، تشمل :
1. تثبيط إنتاج الخلايا المناعية :
- الخلايا التائية (T lymphocytes) : تقل أعدادها وتنخفض كفاءتها
- الخلايا البائية (B lymphocytes) : يضعف الكورتيزول من قدرتها على إنتاج الأجسام المضادة ، مما يقلل الاستجابة المناعية النوعية .
2. خفض نشاط الخلايا القاتلة الطبيعية :
وهي خط الدفاع الأول ضد الأورام والفيروسات ، ينخفض نشاطها بشكل واضح في حالات التوتر المزمن .
3. انخفاض إنتاج الأجسام المضادة
4. ضعف الاستجابة للقاحات
2. الالتهاب منخفض الدرجة (Low-grade inflammation) :
عند التعرض المستمر للضغوط النفسية أو الصدمات ، يفرز الجسم الكورتيزول بكميات كبيرة ، مما يؤدي إلى اضطراب في توازن الجهاز المناعي ، هذا الخلل يتجلى في :
- زيادة مستمرة ومعتدلة في إفراز السيتوكينات الالتهابية مثل : الإنترلوكين-6 ، وعامل نخر الورم -ألفا
- انخفاض في السيتوكينات المضادة للالتهاب مثل : الإنترلوكين-10
هذه الحالة تؤدي إلى بقاء الجهاز المناعي في حالة تأهب دائم ، مايُجهده مع مرور الوقت ويقلل من كفاءته في مقاومة العدوى والأمراض .
وكما أثبتت الدراسات أن الالتهاب منخفض الدرجة يُساهم في تطور عدد كبير من الأمراض المزمنة ، منها :
- الاكتئاب المزمن واضطرابات المزاج
- أمراض القلب والشرايين
- داء السكر يمن النمط الثاني
- أمراض المناعة الذاتية
- الزهايمر
- بعض أنواع السرطانات
العلاقة مع الصدمة النفسية :
يُعتبر هذا الالتهاب أحد المسارات البيولوجية المركزية التي تفسّر كيف تؤثر الصدمة النفسية المزمنة على صحة الإنسان . فتنشيط محور الوطاء - النخامة - الكظر ، وارتفاع الكورتيزول بشكل مستمر يؤدي إلى هذه الحالة الالتهابية ، التي تصبح مزمنة وخفية ، وتُضعف من مقامة الجسم للأمراض .
كيف يتأثر الدماغ بالصدمات النفسية ؟
الضغط المزمن والصدمة النفسية لا تؤثر على المناعة فحسب ، بل تُغير بنية الدماغ ووظائفه .
- اللوزة الدماغية (Amygdala) : تزداد نشاطاً ، مما يزيد القلق .
- الحُصين (Hippocampus) : يتقلص حجمه ، ويؤثر على الذاكرة .
- الفص الجبهي ( Prefrontal Cortex) : ينخفض نشاطه ، ما يُضعف التحكم العاطفي .
كيف نواجه أثر الصدمة ؟
فهم الأثر البيولوجي للصدمة النفسية يتيح تطوير استراتيجيات تدخل سريرية فعالة ، تستند إلى علم المناعة العصبية النفسية ، والتي تربط مابين الجهاز العصبي ، الهرموني ، والمناعي . ومن أهم المحاور العلمية لمواجهة هذا التأثيرات :
1. التداخلات الدوائية المناعية - النفسية :
فكما أظهرت الدراسات أن بعض مضادات الاكتئاب مثل : SSRIs لا تقتصر على تحسين المزاج ، بل تُعدّل أيضاً من مستويات السيتوكينات الالتهابية مثل : (IL-1β وTNF-α) ، ما ينعكس إيجاباً على الجهاز المناعي .
2. إعادة تنظيم محور HPA عبر العلاج المعرفي والسلوكي :
يُظهر العلاج المعرفي السلوكي (CBT) قدرة على إعادة ضبط محور HPA ، وتقليل إفراز الكورتيزول المزمن ، مما يخفف من التحفيز المناعي السلبي الناتج عن التوتر المستمر . كما أن تقنيات التأمل اليقظ تُحفز العصب المبهم ، وهو عامل مثبت في تقليل المؤشرات الالتهابية منخفضة الدرجة .
3. التداخلات الغذائية و الوقائية :
تشير الأدلة إلى أن مكملات مثل فيتامين D ، أوميغا 3 ، البروبيوتيك تساهم في تقليل المؤشرات الالتهابية وتحسين التناغم المناعي لدى الأفراد المتأثرين بالضغط النفسي .
4. المتابعة الغدية والعصبية :
المرضى الذين يعانون من اضطراب مابعد الصدمة أو الضغط المزمن قد يظهر لديهم اختلال في إفراز الكورتيزول ، واضطرابات في النوم ، واختلال في المحور الكظري - النخامي - الوطائي ، وهي عوامل يجب مراقبتها سريرياً .
الخاتمة :
الصدمة النفسية ليست فقط "نفسية"
بات واضحاً أن الصدمات النفسية تترك بصمة فيزيولوجية قابلة للقياس على أنظمتنا الحيوية ، ولا سيما المناعية .
من منظور طبي ، فإن التعامل مع هذه الصدمة لايجب أن يقتصر على الدعم النفسي فقط ، بل يجب أن يتضمن استراتيجيات علاجية مناعية - عصبية - غدية متكاملة ، تأخذ بالحسبان كل ما كشفته علوم المناعة النفسية العصبية من تداخلات حيوية .
الاعتراف بأثر الصدمة على الجسم يعتبر الخطوة الأولى نحو فهم أوسع وأكثر شمولية لصحة الإنسان ، حيث لا ينفصل العقل عن الجسد ، ولا تنفصل المناعة عن النفس .
المراجع

Psychological Stress and the Human Immune System: A Meta-Analytic Study of 30 Years of Inquiry
The present report meta-analyzes more than 300 empirical articles describing a relationship between psychological stress and parameters of the immune system in human participants. Acute stressors (lasting minutes) were associated with potentially ...
تصفح المرجع
Modulation of the immune system by UV radiation: more than just the effects of vitamin D? - Nature Reviews Immunology
Ultraviolet radiation from sunlight can modulate immune function by both vitamin D-dependent and -independent mechanisms. The authors discuss the implications of this for understanding whether vitamin D supplementation might benefit patients with autoimmune diseases and allergic asthma, and boost immunity to pathogens.
تصفح المرجع
