التَلألُؤ البيولوجيّ Bioluminescence : ظاهرة تضفي سحراً على عالمنا
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول"يمكن للمحيط أن يتوهج و يتألق كالنجوم في عنان السماء" .. استوقفتني هذه العبارة الساحرة حين كنت أقرأ عن هذه الظاهرة: ظاهرة التلألؤ البيولوجي.
لا يمكنني أن أعبر عن مدي انبهاري بهذه الظاهرة فقد شاهدت العديد من الصور التي حبست أنفاسي و تركتني في دهشةٍ لا مثيل لها. تخيل أن ترى المحيط ليلاً و قد برقَ و تلألأ بألوانٍ شتى ، بالنسبة لي بدا الأمر شبيهاً بصور النجوم و المجرات التي تلتقطها المناظير العملاقة من جوف الفضاء ، مشهد ساحر للمحيط في الليل الأسحم لا يضاهيه شيءٌ في جماله و رونقه. و هنا نتطرق إلى سؤالٍ مهم و هو:
ما هي ظاهرة التلألؤ البيولوجي و كيف تحدث؟
يحدث التلألؤ البيولوجي عند انبعاث الضوء من الكائنات الحية بفعل التفاعلات الكيميائية التي تحدث في أجسادها. يتصف التلألؤ البيولوجي بكونه ضوءً بارداً cold light مما يعني أن أقل من 20% من الضوء المنبعث قادر على إنتاج طاقة حرارية.
معظم الكائنات الحية القادرة على إحداث هذه الظاهرة تعيش في المحيطات ، و هذه الكائنات البحرية تشمل الأسماك و البكتيريا و قناديل البحر. بعض الكائنات الأخرى تعيش على اليابسة مثل اليراعات و بعض الفطريات. و لا توجد تقريباً كائنات حية متلألئة بيولوجياً موطنها هو المياه العذبة.
التفسير الكيميائي لهذه الظاهرة
يعتبر المركب الكيميائي المعروف باسم luciferin هو المسئول عن هذا الانبعاث الضوئي ، فعلى سبيل المثال حين تترتب جزيئات هذه المادة فإنها تؤدي إلى انبعاث الضوء الأصفر من اليراعات fireflies في حين ينتج اللون الأخضر البراق من الأسماك
اقرأ ايضا
الفانوسية lanternfish حين تتخذ هذه الجزيئات ترتيباً مختلفاً.
يعتبر الإنزيم المعروف باسم luciferase عامل مُحفِّز كيميائياً يؤثر على معدل التفاعل الكيميائي و يوجد في أجسام الكائنات المتلألئة بيولوجياً ، و حين يتفاعل هذا الإنزيم مع luciferin المُؤكسَد أو ما يطلق عليه هنا oxidized luciferin ينتج مركب ثانويّ يطلق عليه oxy-luciferin ، و بشكلٍ خاص فإن هذا التفاعل الكيميائي الذي يحدث في أجسام هذه الكائنات الحية هو المسئول الرئيسي عن انبعاث الضوء من أجسامها في نهاية المطاف.
بعض الكائنات قادرة على تخليق هذه المادة ذاتياً ، على سبيل المثال الطحالب المعروفة باسم dinoflagellates تتلألأ بالضوء الأخضر المزرق ، و هي أحد أنواع العوالق البحرية marine plankton التي تتسبب أحياناً في تألق سطح المحيطات ليلاً.
على الجانب الآخر بعض الكائنات الأخرى غير قادرة على تخليق المادة المسئولة عن التلألؤ البيولوجي و لكنها تقوم بامتصاصها من الكائنات الحية الأخرى إما كغذاء لها أو من خلال علاقة تكافلية symbiotic relationship . بعض فصائل الأسماك المعروفة باسم midshipman fish تحصل على المادة من خلال استهلاكها و تغذيها على الصدفيات seed shrimp . العديد من الكائنات البحرية مثل الحبار squid تقوم بإيواء البكتريا المتلألئة بيولوجياً bioluminescent bacteria في أعضائها الضوئية و هذه أحد الأمثلة للعلاقات التكافلية بين نوعين من الكائنات الحية.
تنوع الطيف الضوئي للتلألؤ البيولوجي
تتنوع الأضواء المنبعثة من الكائنات الحية المتلألئة بيولوجياً بشكلٍ كبير و ذلك اعتماداً على الكائن الحي بشكلٍ خاص و الموطن الذي يعيش فيه.
على سبيل المثال معظم الكائنات البحرية تعكس هذه الظاهرة من خلال الجزء الأزرق و الأخضر من طيف الضوء المرئي visible light spectrum فتشع ضوءً يحمل هذين اللونين أو مزيج من كليهما ، حيث يسهل تمييز هذه الألوان في أعماق المحيطات. كذلك فإن معظم الكائنات البحرية حساسة فقط للونين الأخضر و الأزرق و بالتالي فهي غير قادرة فيزيائياً على معالجة ألوان مثل الأصفر ، الأحمر ، أو البنفسجي و بالتالي غير قادرة على التلألؤ بواسطة هذه الألوان.
معظم الكائنات الحية الأرضية تتلألأ بيولوجياً أيضاً بواسطة اللونين الأخضر و الأزرق ، و لكن على أي حال فالبعض يتوهج أيضاً بألوان أخرى مثل اليراعات fireflies التي تتوهج باللون الأصفر ، و كذلك الحلزون الأرضي الوحيد المعروف بقدرته على التلألؤ و المعروف علمياً باسم Quantula Striata و الذي يستوطن المناطق الاستوائية في جنوب آسيا.
قلّة من الكائنات يمكنها أن تشعّ بأكثر من لونٍ واحد ، منها يرقة الخنفساء المعروفة باسم railroad worm . رأس هذه الدودة يشعّ باللون الأحمر بينما باقي جسدها باللون الأخضر.
بعض الكائنات الحية تبعث الضوء بشكلٍ متواصل كبعض فصائل الفطريات fungus التي تنمو على الأخشاب المتحللة و التي تبعث طوال الوقت و بشكلٍ متواصل بريقاً فوسفورياً خلاباً يطلق عليه «النار الخرافية foxfire ».
معظم الكائنات تضئ لفترة قصيرة تتراوح بين أقل من ثانية و تصل إلى 10 ثوانٍ. هذه الومضات الضوئية قد تكون في بقع محددة مثل النقاط المضيئة على سطح الحبار أو يمكنها أن تتسع لتضيء الجسد بالكامل.
التلألؤ البيولوجي و التكيف adaptations
تستخدم الكائنات الحية هذه الظاهرة بهدف اجتذاب الفرائس ، الدفاع و حماية نفسها من الافتراس ، و كذلك التزاوج و القيام بالعديد من الأنشطة الحيوية الأخرى.
تكيفات دفاعية Defensive Adaptations
بعض الفصائل تتلألأ بهدف ارباك الكائنات التي ترغب في مهاجمتها فهي تقوم بذلك كآلية دفاعية. على سبيل المثال العديد من فصائل الحبار تومض كي تفاجأ الكائنات التي تنوى افتراسها و حين تجفل تلك الأسماك على حين غرة يهمّ الحبار سريعاً بالفرار.
من الكائنات البحرية التي تلجأ إلى هذا السلوك الدفاعي أيضاً هو «حبار مصاص الدماء vampire squid » حيث أن هذا النوع – و غيره من أنواع الحبار الأخرى – لا يمتلك تلك الأكياس التي تحوي مادته الحبرية (الحبار الذي يعيش في المحيطات و قرب السطح يفرز مادة حبرية سوداء تترك الكائنات التي ترغب في افتراسها في ظلامٍ حالك) و بدلاً من ذلك فإن حبار مصاص الدماء يفرز مادة مخاطية متلألئة بيولوجياً و التي تتسبب في ارباك و عرقلة الكائنات المفترسة و تأخيرها إلى أن يتمكن الحبار من الهرب بسلام.
من الكائنات المثيرة للاهتمام أيضاً هو النجم الهشّ brittle star الذي يقوم بفصل جزء من جسده لتشتيت الأعداء حيث يطفو الجزء المبتور و المتوهج بعيداً عن جسد النجم في ظلام قاع المحيط مجتذباً بدوره الأسماك التي تشكل خطراً على نجم البحر ، و بالطبع فإن الجزء المنفصل من جسد نجم البحر سوف ينمو من جديد دون مشاكل.
يعتقد علماء الأحياء أن بعض فصائل أسماك القرش و الحيتان تستفيد من هذه الخاصية الدفاعية عبر التلألؤ البيولوجي بالرغم من عدم امتلاكها القدرة على القيام بها. على سبيل المثال فإن «حوت العنبر sperm whale » قد يبحث عن الأماكن التي يستوطنها مجتمعات كبيرة من العوالق المتلألئة بيولوجياً و التي لا تُعَد جزءاً من سلسلته الغذائية. حين تقترب الأسماك المفترسة من هذه العوالق فإنها تضطرب و تتوهج بشده ، ينتبه حوت العنبر لهذا البريق و يبدأ في مهاجمة هذه الأسماك و افتراسها ، و في النهاية تتوقف العوالق عن البريق و تعود خاملةً من جديد.
بعض يرقات الحشرات و المعروفة باسم «سراج الليل glow worms » تتوهج كي ترسل تحذيراً للكائنات المفترسة كونها سامّة ، بالتالي فإن الضفادع و الطيور و غيرها من الكائنات تعرف فطرياً أن استهلاك هذه اليرقات قد يصيبها بالمرض و ربما الموت.
تكيفات عدائية Offensive Adaptations
تستخدم بعض الكائنات التلألؤ البيولوجي بهدف إغواء الفرائس و البحث عنها و من أشهرها «سمكة أبو الشصّ anglerfish » ، تمتلك هذه الأسماك رأساً كبيراً و أسناناً حادة و جزء خيطي بارز في مقدمة رأسها يحوي ما يشبه الكرة المضيئة ، بعض الأسماك ينتابها الفضول حول هذه الكرة المضيئة فتقترب منها و بالتالي تكون فريسة سهلة لسمكة أبو الشصّ.
التزاوج
ذكور اليراعات البالغة تقوم بهذه الظاهرة لتعبر عن رغبتها في التزاوج من الإناث.
أشكال أخرى للتلألؤ البيولوجي أكثر سحراً
لا أستطيع هنا أن أغفل الحديث عن ظاهرة «البحر المحترق milky seas » حيث تتجمع الملايين من البكتيريا فوق سطح البحر و تصدر بريقاً متواصلاً مشعاً بشكلٍ يسمح للأقمار الصناعية السابحة في مداراتها حول كوكب الأرض بالتقاط صور خلابة تحبس الأنفاس لهذه الظاهرة.
العلم و الاستفادة من هذه الظاهرة في حياتنا
يقوم علماء الهندسة الوراثية بدراسة هذه الظاهرة لمحاولة فهمها و معرفة كيف يمكن الاستفادة منها في جعل الحياة أكثر سهولة.
توصل العلماء لاكتشاف ما يعرف ب green fluorescent protein و هو أحد المواد الكيميائية الهامة المعروفة باسم reporter genes التي يتم الصاقها في الجينات الأخرى و من خلال الإشعاع fluorescence الصادر عنها يمكن بسهولة تتبع الجينات و دراسة نشاطها بسهولة.
كذلك هناك العديد من التجارب التي تهدف إلى استخدام هذه الظاهرة في إضاءة الشوارع و الطرق باستخدام الأشجار المتلألئة بيولوجياً bioluminescent tress و بالتالي قد يقلل ذلك من الحاجة لاستخدام الكهرباء.
المصدر:
Asmaa Gamal
كاتبةكاتبة مهتمة بمجال الصحة و العلاج الفيزيائي physiotherapy كما أني مهتمة بالقصص و الروايات و الخيال
تصفح صفحة الكاتب