الإعلام الأصفر

حميد  بن خيبش
كاتب مغربي
وقت القراءة: دقائق

" إن خدمة الحقيقة هي أصعب أنواع الخدمات " فريدريك نيتشه

الإعلام الأصفر

لم يعد الأمر وقفا على الجرائد الصفراء، بل تسللت " الصفرة " إلى الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني. إننا نعاين اليوم أسوأ تجليات الانحياز للمال والدم، ومباركة الانقلاب على الكشف النقاش الدائر اليوم حول مهنية الأداء الإعلامي وأخلاقياته عن استياء من الهوة المريرة التي انحدرت إليها بعض وسائل الإعلام. فاصطفافها إلى جانب القوى المضادة للربيع العربي، وتذمرها الصريح مما أفرزته صناديق الاقتراع زج بها في دوامة من الأكاذيب والتشكيك المبالغ فيه في قدرة حكومات ما بعد الربيع العربي على تلبية مطالب الثورة. ولا شك أن المشاهد العربي تابع بحسرة كيف تحولت العلاقة الجدلية بين وسائل الإعلام والأنظمة الحاكمة إلى عقد قران تخلت بموجبه صاحبة الجلالة عن مصداقيتها وولائها للحقيقة، كي ترخي ستارا ضبابيا يعيق الرؤية الواضحة لمجريات الأمور. إن مصطلح "الجرائد الصفراء" والذي يطلق عادة على كل منبر ينتهك تقاليد العمل الصحفي، يبدو اليوم أكثر توهجا وحضورا من ذي قبل، بعد أن تطوعت أقلام ووجوه إعلامية معروفة لإيقاد الشموع إحياء لذكرى "وليام هيرست" رائد الصحافة الصفراء ومهندس الفبركة الإعلامية والإثارة والتضليل!

شكل الصراع بين صحيفتي "نيويورك ورلد" و" نيويورك جورنال " حول شريط مصور يحمل اسم "زقاق هوجان" نقطة تحول مصيرية في الإعلام الأمريكي. فالشعبية التي حظي بها بطل السلسلة وهو صبي ذو رداء أصفر، ترجع بالأساس إلى اللغة الفنية المبدعة التي اعتمدها الفنان ر.ف. أوتكولت في ملامسة هموم المجتمع الأمريكي، خاصة طبقات العمال و الفلاحين وصغار الموظفين. فكان من الطبيعي أن يؤدي الارتفاع المهول في نسبة المبيعات إلى احتدام التنافس بين الصحيفتين حول تكرار نشر حلقات السلسلة، حتى باتت تعرف ب "جرائد الصبي الأصفر" أو "الجريدة الصفراء". ونظرا لتمتعها بقوة جذب ملحوظة لفئة عريضة من القراء، عمد وليام هيرست مدير صحيفة "نيويورك جورنال" إلى التنكر للتقاليد المعمول بها في الصحف الجادة، وابتكار أساليب جديدة تحقق عوائد مادية مهمة بغض النظر عن الرسالة الفكرية أو الهدف التنويري! فأعلن للعاملين لديه أن من واجبهم اختراع أية معركة مثيرة إذا خلت الساحة من معارك فعلية، وأن كسب ثقة القارئ والحفاظ عليها يفرض السبك المتقن للحملات المفتعلة و السبق الصحفي المثير، حتى لا تنكشف الاستهانة بعقله.وإذا كان غريمه جوزيف بوليتزر قد أبدى ما يشبه صحوة الضمير حين خصص جزءا من ثروته للاحتفاء السنوي بالأعمال الصحفية والأدبية الجادة, فإن هيرست قرر المضي في الهيمنة على المشهد الإعلامي الأمريكي والتأثير على صناع القرار.

شكلت مبادئ هيرست نسقا تتحرك داخله الصحافة الصفراء من بعده. ويمكن إجمالا حصرها كالآتي :

ـ المبادرة والحدة والحساسية لالتقاط الأحداث قبل وقوعها.

ـ تغليب الاهتمام بالسلبيات ونشر الفضائح وفق أسلوب يتسم بالتعالي والاستهزاء، خاصة حين يتعلق الأمر ببلدان العالم النامي؛ حتى ليخيل للمرء أن بعض هذه البلدان رزمة للعفن و الشر والكوارث, وأن ليس فيها شعلة أمل تضيء !


اقرأ ايضا

    ـ المزج بين الخبر والرأي والشائعة لتحقيق الإثارة الانفعالية الجاذبة لقطاع عريض من القراء.

    ـ التركيز على الأشخاص بدل الموضوعات، وانتهاك الخصوصية الفردية للإنسان عملا بمقولة " الأسماء هي التي تصنع الأنباء".

    ـ الإعلان قبل الإعلام والولاء لقواعد اللعبة التجارية في الصحافة .

    ـ توظيف السخرية والفكاهة في تناول بعض الوقائع السياسية والقضايا الاجتماعية، خاصة أسلوب المحاكاة الساخرة.

    غير أن رسوخ التقاليد الصحفية في الغرب، وما تفرضه بعض المتغيرات السياسية والثقافية من إعلاء للجهد المعرفي والتحليلي على الانفعالية، حذا بالصحف الصفراء إلى تطوير أدائها في مجال التحرير والإخراج، والتخفيف من جرعة الهستيرية والأحاسيس الزائفة التي تصادم التحليل المنطقي الهادئ، لاسيما في ظل منافسة محتدمة مع الإعلام المرئي والمسموع.

    هل خضعت صحافتنا الصفراء لسياق مماثل في نشأتها وأدائها ؟

    يصر الدكتور نبيل راغب على الجواب بالنفي، مؤكدا أن واقعنا أشد صفرة من أية صحافة صفراء رخيصة، وأن وسائل إعلامنا بكل أطيافها ليست بالحرية والجرأة والثورية التي تتمتع بها نظيراتها في الغرب! إذ رغم محاكاتنا للنماذج الصحفية العالمية لم تظهر بعد في المنطقة العربية صحافة صفراء، لأن" كل الأساليب والألاعيب والخدع والحيل التي تتطلبها الصحف الصفراء من الصحفي أو المخبر، غير متاحة لزميله العربي المقيد بالنظام المحافظ أو التقليدي أوالرسمي لصحيفته. ذلك أن معظم الصحف العربية مملوكة للأنظمة الحاكمة، طلبا لمساعدتها ودعمها الأدبي على الأقل، وربما تجنبا لبطشها وغضبها.

    و يرجع الاختلاف الجذري بينهما إلى كون الخوف الوحيد الذي تضعه الصحف الصفراء هناك في حسابها هو تراجع المبيعات الذي قد يصل بها حد الإفلاس والتصفية، في ظل لعبة رأسمالية لا ترحم. أما في العالم العربي فيمتد الخوف ليشمل المصادرة والإغلاق والبطش بالعاملين. وإذا كانت الجرأة في الغرب وليدة الحرية و الواجهة الديموقراطية التي يفخر الغرب بإرسائها، فإنها هنا جرأة يُسمح بها كنوع من الإلهاء و التنفيس. ولذلك إذا ظهر رئيس تحرير لصحيفة عربية يتميز ببعض الجرأة وسطع نجمه نتيجة لذلك، فإنها جرأة محسوبة ومطلوبة من السلطة نفسها لحسابات تخصها، فهي مقننة في إطار لا يُسمح لها بتجاوزه أو تخطيه. وإذا حدث هذا الخطأ نتيجة لهفوة أو غرور مفاجئ من رئيس التحرير الذي استمرأ الأضواء، فإنه سرعان ما يجد نجمه وهو يأفل بمجرد جرة قلم من المسؤول الكبير الذي منحه الفرصة لكنه أهدرها.

    امتدت "الصفرة" إلى التلفزيون الذي شكل منذ ظهوره غريما قويا للصحافة المكتوبة. فالسعي الجامح لشد الانتباه وكسب أعلى نسب للمشاهدة، يحمل القائمين عليه على تقديم صورة مشوهة للواقع مادامت تحقق العائد. إن القيمة الأساسية لديه هي قيمة السوق، والنجاح في الاستحواذ على انتباه المشاهد يعني بكل بساطة تمريرا جيدا للرسائل الإعلانية.

    هل يقف الأمر عند هذا الحد ؟

    كلا ! إنه يدمر العقل النقدي، ويولد حالة من السلبية والقبول التدريجي بمعايير أخلاقية بديلة. فالحكم الأخلاقي الذي كان يصدر في السابق تبعا لنوع الفعل، أصبح اليوم مرتبطا بمدى التعاطف الذي تكسبه الشخصية في العمل الدرامي. هكذا إذن يستمرئ المشاهد العمل الإجرامي مادام صادرا عن شخصية تتمتع بتقديره وتعاطفه .ونظرا للبث المتكرر فإن هذه الرسائل تسهم ولاشك في تغذية مشاريع الانحراف والجريمة على أرض الواقع !

    تخلص الأبحاث والدراسات حول تنامي العنف وارتفاع معدلات الجريمة إلى أن لوسائل الإعلام دورا في اهتزاز القيم، واضطراب السلوك، وإرباك الوعي الاجتماعي والديني والقيمي للأفراد, بسبب غياب التجاوب بين رسائلها وحقائق الواقع الاجتماعي. كما أنها تعمل على تحويل القيم من نمط يتسم بالثبات والاتساق والموضوعية، إلى نمط سمته التأرجح والانتهازية والتناقض. وحين يقع الفرد ضحية تذبذب القيم يسهل وقوعه في هاوية الجريمة . وبالعودة إلى ما يبثه التلفزيون الأصفر فإن الأمر لا يتطلب نباهة للجزم بأننا أمام رسالة إعلامية، تنهل من الغرائز السفلى للكائن الإنساني!

    إن العبث بالقيم والمرجعيات وتحريف الميول والاتجاهات عن مسارها السليم، يتعارض بشكل قطعي مع مبادئ وقيم الديموقراطية التي يصبو إلى ترسيخها كل مجتمع. فلا يمكن إيجاد ديموقراطية، يقول كارل بوبر، إذا لم نُخضع التلفزيون لمراقبة ما. فإن الديموقراطية لا يمكن أن تعيش طويلا مادامت سلطة التلفزيون لم تُحجم كلية.

    و لا تشذ نماذج عديدة من الصحف الإلكترونية عن قرينتها المكتوبة في استلهام مبادئ "الصفرة" ووصايا وليام هيرست، خاصة في ظل ما تتيحه الخدمة التفاعلية عبر الانترنيت من انسياب مذهل للمحتوى الإعلامي، واتساع غير مسبوق لقاعدة الجمهور. فالحرية التي أتاحتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة حملت في ثناياها تناقضا جوهريا بين ثراء التقنية وانكماش الرسالة، وأسهم التحرر المغرض من كل الضوابط والقواعد الملزمة في انتهاك القيم والمرجعيات، تحويل المنبر الإعلامي إلى واجهة للتأليب وتشويه السمعة والتطاول على الخصوصية الفردية. وهذا الموقف الخصامي الحاد أصبح اليوم مثار تنديد حتى من داخل الجسم الصحفي، إذ عبر مايك أونيل رئيس تحرير نيويورك ديلي نيوز عن استيائه من نبرة العداء اليومية تجاه العمل الحكومي قائلا: " إن ميل السلطة الرابعة قد وصل إلى العربدة في السلطة، وتطويقها بحرية أكثر منها أي زيادة مناسبة في المسؤولية. لم نعد ننظر للحكومة فقط بعين الشك الصحي المطلوب ولكننا نعامل الحكومة كما لو كانت عدوا، ونعامل المسؤولين الحكوميين كأهداف مناسبة للمهمات الهجومية و التدميرية. فهل أصبحنا إلى هذا الحد ساخرين، قساة بتجربتنا مع الزيف. فلم نعد نشعر بما يمكن أن يشعر به مسؤول أو زوجته أو أطفاله عندما يجري تمزيقه على شاشة التلفزيون أو في الصحافة ؟

    تبدو الصحافة الصفراء تجليا آخر للعلاقة المتوترة بين الحرية والمسؤولية. وإذا كان الإعلام الحر رافعة أساسية للبناء الديموقراطي فإن حريته تلك لا تتنافى وضرورة انضباطه للقيم والمرجعيات التي تحكم المجتمع، بل إنها تفرض عليه ولاء مطلقا للحقيقة والاستقصاء الموضوعي، بعيدا عن التهييج والتأليب والإثارة المفتعلة. ولا يمكن للتوسع الإعلامي الهائل أن يُثمر مخرجا من الغُمة السياسية والثقافية والاجتماعية، إلا حين يندرج ضمن نسق إصلاحي، يستعيد فيه الإعلام سلطته الرابعة في صنع القرار بعيدا عن وصايا هيرست و أحفاده !

    حميد  بن خيبش

    حميد بن خيبش

    كاتب مغربي

    الكتابة إفصاح عن مكنون الوجود.

    تصفح صفحة الكاتب

    اقرأ ايضاّ