وشاءت الأقدار - قصة قصيرة بين الكاتب وابنه

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
مقدمة
يدور المقال حول قصة وداع بين اب وابنه ويحكى عن بداية العلاقة التى ربطت بينهما فى سن مبكرة من حياة الطفل، وكانت لها الأثر الكبير فى تغيير حياة الأب، وكيف بدأت معه رحلة الكتابة ويتطرق المقال الى وداع الطفل لوالده وكيف كانت نهاية حياته بصورة مختصرة وحزينة.
براءة طفل
إرتبط هواه زماناً طويلا بقلبي، وصار ذكرى من أجمل الذكريات التي دائما ما تجول بخاطري، وتئن الروح به كلما جاءت ذكراه، وهنا يكمن سر كتابتي اليوم، تلك الذكرى الجميلة التي كلما را ودتني أحسست بسكين يشق ذلك الصدر العليل، فأقول لنفسي إن أردت أن يلتئم ذلك الجرح فعليك أن تتوقف عن الضغط عليه، وكيف ذلك وهذا الجرح أصبح يسري في كل شرايينى ومن منا في إستطاعته أن يهرب من جراحه.
تلك البراءة التي لم تتكرر إلا مرة واحدة في العمر، ذلك النقاء الألماسي الخالي من كل شائبة ودنس ولعل رتبة الإنسانية التي وصل إليها لم يصل إليها إلا القليل جدا من البشر ويموت آخرون دون الوصول إليها.
ورغم علمي يقينا أننا بطريقة ما سندرك أن الطريق الذي إختاره الله لنا كان أفضل ألف مرة من الطريق الذي أردناه لأنفسنا، وأن البلاء الذي أنهكنا لم يكن سوى رحمة مهداة، وأن الأمر الذي جفانا النوم من أجله لم يكن يستحق كل هذا العناء، بطريقة ما سندرك أننا لسنا ملاك أمرنا، وأن الأمر كله بيد الله وحده.
رحلتى معه
وتبدأ رحلتي معه وهو إبن خمس سنين في تلك الحديقة الجميلة حديقة الكفراوي بمدينة العاشر من رمضان وهو صغير حين لفت إنتباهي بكاءه بحرارة، بسبب فقد لعبته المقربة جدا من قلبه، وعندما إقتربت منه ل مساعدته في البحث عنها وبعد فترة من العناء لم نجد شيئاً، وقتها إقترحت عليه أن نعود إلى المنزل ونأتي غدا للبحث عنها من جديد فقد كان الوقت متأخرا.
وعندما ذهبنا الي البيت وجدت نفسي أمسك بالقلم وأكتب له رسالة على لسان لعبته، لإيماني الشديد بأننا لم نحصل عليها مرة أخرى وستصبح له ذكرى وكان نص رسالتها اليه: صديقي الحبيب الغالي توقّف عن البكاء أرجوكِ، فقد قرّرت السّفر لرؤية العالم وتعلٌم أشياء جديدة، وسوف أُخبرك بالتّفصيل عن كلّ ما يحدث لي كل يوم، وعندها قد ترى الدنيا كلها من خلالي، وفي الصباح ذكرني بإلأتفاق الذى قطعته على نفسي ليلا بأن نذهب للبحث عنها فما زالت اللعبة في رأسه، إصطحبته إلى نفس المكان وأعطيت له الرسالة، فطلب مني قراءتها وهو يبتسم وسط الدموع التي لازالت في عينيه، وكان لابد أن تتكرر الرسائل كل يوم فقد وعدته بأنها سوف تراسله عن كل جديد في رحلتها إلي العالم، وتحكى له فيها عن مغامراتها، والبطولات التي تحققها في جولاتها.
بداية الكتابة
وبدأت أتعلم كتابة القصص الجميلة الممتعة من ذلك اليوم، لكي أحدثه عن رحلة صديقته الصغيرة التي تركته وحيدا وسافرت بعيدا عنه، وعندما كبر وكنت دائما أضع له الرسالة في إحدى لعباته، قالت له في رسالتها: إعلم يا صديقي أنك كبرت، وأن الأسفار غيرتني كثيرا، وأن كل ما نحبه معرض دائما للفقدان، ولكن لا تيأس يا صديقي فإن الحب موجود بيننا لم ولن ينتهي أبدا.
ولكني تفاجأت برد منه لم أتوقعه من ذلك الطفل الذي يسبق عمره بسنوات... يا بابا: إن كُلّ الأشياء الحقيّقة في هذه الحياة تحدُث لمرّة واحدة فقط: الموت، الميلاد، الحب، لا شيء يحدث مرّتين غير الوهم والخيال، هل كنت تضحك علىّ بخصوص الرسائل التي ترسلها لي لعبتي... فاجأني ذلك الفكر من طفل لا يتعدي عمره وقتها ثلاثة عشر عاما، وأيقنت وقتها أنه لن يستمر ولن يعيش طويلا، فهؤلاء هم ملائكة الأرض الذي وهبهم الله بعدا آخر ليملأوا الدنيا نورا وبهاءا.
وعلمت وقتها أننا حتما سوف نتوه في هذه الدنيا بعد أن نستنفذ كل محاولاتنا للنجاة، كأن الله يعلمنا كيف نتعلق به وحده... وكانت هذه نقطة ضعفي:انهم الأطفال.
وفوجئت برسالة على مكتبي في صباح اليوم التالي: صديقي العزيز بابا: لقد قمت بالإشارة إليك هنا لأنني أريدك أن تقرا هذا، أنا محظوظ جدا لأنك بابا، أنت من أفضل الهدايا التي حصلت عليها في حياتي، شكرا لك على كل رسائلك ودعمك المتواصل طوال فترات عمري القصيرة، شكرا لكونك هنا في أوقات الحاجة سندا وملجأً لي، وأنك لا تتعب أبدا من الاستماع الى كل الهراء الذي كنت أتفوه به، وتتحمل كل تصرفاتي الغريبة، شكرا لك على اللحظات الجميلة والمجنونة والسعيدة، أنا حقا مدين لك بالكثير، أنا فقط أريدك أن تعرف أنك ثمين جدا بالنسبة لي، وأنك أغلى حاجة في حياتي، وأنا حقا أشتاق اليك الأن وفي كل الأوقات فأنت لا تنسى كل شيء عني، شكرا لك حبيبي الغالي بابا وأنا أحبك كثيرا، إعلم جيدا أنك رفيق روحي.
وقعت هذه الكلمات على نفسي ك بلسم من نوع خيالي يداوي الجروح، ك مصباح رباني في زجاجة، تلك الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لامست تلك الكلمات روحي ك ملامسة يد الله على قلبي، فوجئت بالأمطار تنهمر من عيناي فتغطي تلك الرسالة وأنا لا أشعر بشئ، لقد تاهت تلك الكلمات الجميلة من على الورقة التي كتبت عليها ولكنها لم تخرج من قلبي حتى اليوم.
تخيل أن يُكِنّ لك أحدهم حُبًّا كالذي في قلبِك، تخيل أن يُلقيك القدر بقلبٍ يُشبهك ويكُن هو قلب طفلك، تخيّل أن تكون إسمًا يتردد في دعاء أحدهم كل ليلة وأنت لا تعلم.
اللهم عوّضنا عن كل عسرٍ شتتّ طرقاتنا وأبدّله يُسرًا أينما وجهنا وجوهنا.
لحظات الوداع
وقد شاءت الاقدار أن يتركني ليلتي كتلك اللعبة التي تركته من سنوات ويحل عام جديد، وشهر جديد هو شهر رمضان المبارك، وكانت تلك أجازة نصف العام الدراسى، وهى أول أجازة من مدرسة اللغات الإعدادية الخاصة، إنها مدرسة الخطيب بالعاشر من رمضان، وكالعادة نعود إلى المنصورة لقضاء أجازة نصف العام، وفي إحدى الليالي وقبل صلاة الفجر يناديني بطني تؤلمني، إصطحبته سريعا إلي أقرب طبيب ليداعبه ويقول له إنت بتدلع يا سمسم، وفي الليلة التالية يشتكي مرة أخرى ف احتضنته وعندما وجدته باردا ك الثلج أحسست بحسرة لم أشهدها طوال حياتى، لعلها لحظة الفراق، وبسرعة ذهبنا معا إلي الدكتورة شادية السلاب بمدينة المنصورة، قامت بتحويلنا مباشرة إلى مستشفى السلاب على النيل أمام نادي جزيرة الورد، ولن أنسى هذه اللحظات عندما قطعت طريق الكورنيش كله مخالفا لأكسب الوقت، ولكن إرادة الله قد سُطرت وسيحدث ما كتب لنا، صعدنا بالمصعد إلى الدور الثالث وتم الكشف الطبي سريعا وطلبوا مني أن أحضر العلاج من الصيدلية بالدور الثاني، ولم أدري بنفسي وقتها، وعندنا صعدت إلي غرفة الكشف وجدت الأطباء يضغطون على قلبه الضعيف الذي لا يحمل إلى الحب والنقاء، ولكن هيهات لقد صعدت روحه الطيبه إلى السماء ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).
ماذا بعد الوداع
وتساءلت ماذا أفعل الآن: عندما كنت طفلاً كنت مفضوح المشاعر وكنت سريع البكاء، والآن كبرت وبدأت أعي آلامي، وبدأت أضع آلامي وأحزاني بين السطور علها تصل إليه كما كانت تصله حكايات اللعبة التي كنت أكتبها نيابة عنها، ولم أنقطع يوماً عن الكتابة فكان هو السبب الوحيد في تعلمي كتابة القصص... ولماذا لم أكتب وما الحل سوي ذلك، فالكلمات في رأسي تؤرق نومي، تكاد تدفعني إلى الجنون، ودائما ماتعودت أن أهرب من نفسي إلى كلماتي: بعض الأمور نفعلها أحياناً لأننا لا نملك إلا أن نفعلها.
ودائما ما أجد نفسي أعيش بين غياهب النسيان فيخرج ما في صدري على قصاصات من الورق لأستريح منها، ودائما ما تولد الكلمات في رأسي ثم تقفز من تلقاء نفسها إلى صفحاتي، وأنا لا أملك شيئا فقط أراقبها من بعيد، وأحيانا حتى لا أصححها ولا أستطيع أن أضع لها عنوانا، ودائما كنت أهرب لأبحث عن ذلك المكان الذي تشعر فيه بكل من حولك يحبونك، لأن الحياه لا قيمة لها ما دُمت لا تشعر بحب الآخرين لك وما دمت لا تشعر بوجودك في هذه الحياة وبوجود الحب والتآلف والإنتماء والإخلاص، تلك المشاعر تجعل من يتصفون بها أناساً رائعين، ودائما نحن بحاجه ل الإختلاط بالبشر حتى ننسى أوجاعنا ونداوي جراحنا ونواسي أنفسنا بوجودنا بينهم.
فلا يُمكن بل مستحيل أن يعيش الأنسان وحيداً وبعيداً عن البشر، ولا وجود لإنسان كامل على وجه تلك الأرض التي نسكنها، ولأننا بشر ونحتاج إلى المَحبة والتعاون علينا أن نتعلم كيف نحب قبل أن نطلب ذلك من الأخرين وأن نتعلم كيف يمكن أن نتفاهم وبالتالي نتعلم، فلا تيأس إذا تعثرت قدماك وسقطتَ في حفرة ضيقة، فسوف تخرچ منها وأنت أكثر تماسكاً وقوة والله مع الصابرين، ولا تحزن إذا چاءك سهم قاتل من الأقدار فسوف تجد من ينزع السهم ويعيد لك الحياة والإبتسامه من جديد.
لعلي أردت فقط أن أحكي قصتي معه، أردت أن أحكي لكم أن أحدهم كان جميلاً جدا، وكنت لا أخفي عنه سرا، واليوم أصبح هو السر الذي يبكيني وكنت أخفيه عنكم واليوم قصصته عليكم.
أتدرون: أن أسوأ ما في الحنين أنّه يعيد عليك الشريط من بدايته، فالحزن الصامت يهمس في القلب حتّى يحطمه... اللهم لا تحرمنى سعة رحمتك، وسبوغ نعمتك، وشمول عافيتك، وجزيل عطائك، ولا تجازنى بقبيح عملى، ولا تصرف وجهك الكريم عنى برحمتك ياأرحم الرحمين.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب