من ذاكرة القرية - من سمات القرية المصرية في الماضي التى إقترن أهلها بالطيبة، وحسن الخلق

آخر تحديث:
وقت القراءة: دقائق
16
لا توجد تعليقات

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق

تسجيل الدخول

القرية المصرية فى الماضىالقرية المصرية فى الماضى

تلك كانت سمات القرية المصرية في الماضي، إقترن أهلها بالطيبة، وحسن الخلق، ونكران الذات، برغم ضيق اليد كان إنسان القرية يجود بكل ما يملك ولم يكن بينهم فقير، كانت الشهامة والرجولة والحب والكرم هي طباع أهل القرية، كانوا يتعايشون وكأنهم نسيج واحد، ونوع واحد، وقالب واحد، برغم إختلاف طباعهم وأحلامهم وأحوالهم، كان لكل منهم نكهته الخاصة ومذاقه المميز، فتارة تلفحهم الحياة بأطراف لهيبها فيبرق سطحهم كالخبز الشهي الطازج، وتارة تحرقهم بقلبها الذي يتلظى فيزهد الناس فيها لمرارتها، فيشعرون بانهم حفنة من تراب هذه الارض.

ذكريات القرية

وثقيلة هي تلك الذكريات، مرهقة، لكنها مريحة لمن يعرف قيمتها، لمن عاشها بعمق، بتأمل، لمن عاش على خطاها، أحيانا لا يعرف قدرها الكثيرون منا، وعادة مااساء إليها أكثر، أن لا تعرف مغزاها، أن لا تعي قيمة ما تملك يجعلك تفرط فيه وتتخلي عنه بلا ثمن، هذا ما يجعلك تتوه بعيدا عن دربك، تسير عكس الإتجاه، ذلك المصير الذي يجعلك تنصاع إليه ولا يمكنك من الرجوع، هذه آفة هذا العصر.

أصبحت الآن أرض غريبة، المناخ فيها دائمًا يشبه ذاك الذي نراه في نهار الشتاء، الشمس باهتة، لن تكون واثقًا أنّها أشرقت، وفي ذات الوقت لا تستطيع أن تنفي أنّها هناك، ستشعر دائمًا بالبرودة، الطيور هناك يغطيها ريشٌ غريب الشكل واللون، ستجدها أكبر حجمًا مما كانت عليه، الماء ملوث أخضر اللون، الضباب يلف كلّ شيء، الأشخاص غريبوا الأطوار والهيئة والملابس، وكأنّ كلّ مجموعة منهم أتوا من حقبة زمنية مختلفة، وبيئة مختلفة، وكأنّ هناك من جمعهم فجأة من أزمنتهم أو إستدعاهم لمهمة ما.

وعجيب أمر هذه القرية، حكايات الفلاحين الممتعة، ونوادر الأجداد الملهمة، فما أجمل الشقوق في أيديهم وأقدامهم مثل الأرض البور العطشانة، إرتبطوا بتلك الأرض فإكتسوا منها كل شئ، سماتهم، ألوانهم ، هيئاتهم، حتى طباعهم، عمرها من عمر السنين>

والمباني القديمه كانت تقسمها إلى أصناف، فمنها الفارهة والمحاطة بالزروع، ومنها بيوت الفقراء الذين يعملون في الأرض كانت لا تكفيهم مأوى دون زاد، ومساكن شاخت فأهداها الصرف قناعة، فتبدوا لك كالعجوز الشمطاء حالت عليها الأحوال، وتخلت عنها الظروف، فلم تمر عليها سنوات وأصبحت آيلة للسقوط.

وحين تخرج بعد الفجر تجدهم أسرابا على الطريق الزراعي وسط الحقول وترى أذانهم حمراء من أثر البرد، والندي من فوقهم يغطي الزروع، وقد صنعوا على رأس الحقل حظيرة، وضعوا بها أوتادا لربط الأبقار من فروع الأشجار، وحبل طويل من التيل يعقد في أقدام الأبقار الأمامية، به قدر من الطول يسهل عليها الحركة لتناول الطعام.

حينها كان رى الأرض البور يستمر أكثر من عشرة أيام ، وكانت الأم تقوم بعد الفجر لعمل العيش والفطير وتذهب به إلى الحقل لتناول الإفطار.

كنت صغيرا في العاشرة تطرب مسامعي إبتهالات نصر الدين طوبار، فيغلبني النوم من شدة البرد، فالتحف حينها بالحمل وهو غطاء من صوف الغنم حين تضعه على جسدك تحس بحرارة تعالج كل القشعريرة التي تجعلك ترتعش من شدة البرد، وأغالب شيطاني وأنزع الغطاد من فوقي وأسرع إلى المسجد، وبعد خروجي من المسجد أعانق نسيم الصباح لا يحمل شوائب، ولم يتأثر بعد بالآثام، فالكثير مازال في نوم عميق، والبعض قد إصطفاهم ربهم لتلبية النداء فطاب لهم ذكره ومناجاته، وجوههم يعلوعا النور، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا.

وتوافد الصبية إلى الكتاب، ساحة محاطة بالطوب اللبن من ثلاثة جهات ليس عليها باب، يفترشون الأرض، وأمامهم الشيخ يفترش الحصير وبيمينه الخرزانة يعاقب من يخطئ، ومن في حاجة منهم إلى التأدب، يتعلمون القراءة والكتابة، وينتقلون من شيخهم إلى مرحلة التعليم.

من ذاكرة القرية -  من سمات القرية المصرية في الماضي التى إقترن أهلها بالطيبة، وحسن الخلق

حاضر اليوم فى قريتى

إختلط على الناس كل شئ حتى ضل النبلاء طريقهم، وأصبحت الذكرى سراب، أصبح الليل كصحراء موحشة، السماء تكشف سوءاتها، أصبحت عارية خالية من الأقنعة.

كان الليل في قريتي هادئ يغلفه الصمت مثل سكون المقابر، وأنين المفقودين، وقهر الفقراء، وبكاء اليتامى ونظرات الجوعي، أفسد بهجته الحمقي، وأصبح المنافقون يعيثون في الأرض فسادا، غمروا الدنيا صياحا وعويلا، كذبا وإفتراءا، حتى أصبح لون الأشياء عقيما>

اليوم أصبحت مشتت الفكر، تائه ، حائر، عابس، أصبحت أبواق السيارات تصم الآذان، ضجيج الأصوات في كل مكان، فزاد أنين المكلومين.

فمن أين أتى كل هذا، أصبحنا نضيع تحت أكوام من الرؤى، من المشاهد الرخيصة، أفلام رديئة، نص غير مكتمل، ضاعت ملامحه، لا تعرف له بداية من نهاية، ولا سبب مهده، ولا حقيقة وجوده.

الظلم أصبح قاسي، والوطن أصبح دائما هو الفريسة، والنتائج يتحملها الضعفاء وحدهم، لقد أصبح النوم ياصديقي قبل أن يفارقك يفارقني، والروح المرهقة عندك كانت عندي تتلوي كمدا.

الوقت أصبح صعبا شاقا، فكيف نجتهد حتى نتغلب على تلك الصعاب، وكيف يكون العمر سهلا يسيرا، فنرتاح حتى نكمل الخطى وتمتد بنا المسيرة، أفراحك الصغيرة، إنتصاراتك الكبيرة، آلامك البسيطة، أحزانك العظيمة، كلها أصبحت لا تعنيهم بشيء، لأنهم منشغلون بم يحبون من مال ودنيا لا بك أنت، فلا تتوهم بأنك شخص ذو أهمية كبيرة عندهم، فأنت لست سوى رقم إضافي في قوائمهم، مجرد نقطة خضراء على مواقعهم، غيابك ليس له معنى عندهم، وحتى إن لاحظوه هذا لا يعني أنهم يفتقدونك، هم لاحظوه فقط لأن شكل الطاولة قد تغير لا أكثر.

وإعلم أنك لست سيئا أبدا، لست كذلك مازال فؤادك يزهر، فقط بسبب كلمة طيبة قيلت لك، مازالت تأسرك الإعتذارات التي تأتيك ولو بعد إنطفاء الرغبة بقدومها، ما زالت تنسيك اللطف والود المصطنع من فظاعة أفعالهم، وسواد قلوبهم، مازلت تتنازل عن كبريائك وعنادك ، فقط بإبتسامة قابلوك بها، أحسست دائما أنك كائن فعلا مخلوق من طين، أشياء كثيرة تنهشك من الداخل، وتحول طينك إلى رمال ناعمة، تأخذها الرياح إلى حيثما شاءت، لكنك رغم كل الأعاصير مازلت على عهدك ومبادئك.

ولكن معذرة يا صديقي فهناك أمور أكبر منك ومن طيبتك، أنت تقاتل لكي لا تكون سيئا مثلهم، بينماهم يقاتلون لتكون أسوأ منهم، لكنهم ما إستطاعوا ولن يستطيعوا، فهم منحو قلبك قوة وهمة، وأنت وضعت في قلوبهم غما وهما، لقد غادرتني نفسي الّتي كُنت أعرفها بالأمس، كانت لحظة واحدة هي الفيصل، لم أعد أنا، أخرجت ما بجعبتي من أسرار وبعثرتها في السماء، أخبرتُ الله بكلّ شيء، طلبت منه أن يشفي جراح قلبي، ويجعلني قويا لأتحمّل ما أنزله بي من قضاء.

سألت أبي يوما فقال

سألت أبي يوما فقال: يا ولدي إرجع لنفسك الأولى، أخلوا بنفسك، تضرع إلى الله بكل جنبات قلبك، إبكي حتى تتخلص روحك من كل تلك الشوائب، تنقيها فتصير شفافة كالماء الطاهر، تنزل على روحك السكينة، ويتشبع قلبك بالرحمات، فتخرج من تلك الحالة وقد ولدت من جديد.

يا ولدي إستمتع، جد، إجتهد، إصبر، إقرأ، إبتسم، إمنح روحك الوقت كي تحيا، فكل الصعاب تهون عندما تراها كذلك، بالرفق، باللين، بالود، ترتاح روحك، الخوف هو من يفسد عليك الوقت، الرهبة من كل تغيير، الرعب من كل جديد، لاتقلق من النتائج، من الفشل، الفشل هو أول سلم للنجاح، تمهل وإعط كل شئ وقته، دون مواقفك، سجل تجاربك أكتب ماتعلمته.

إقرأ لكي تسافر حتى دون أن تغادر، كن نورا يشع جمالا، كن أنت، عليك أن تسعي حتى يسعى حلمك خلفك، إحعله في قبضة يدك، حتي تصل إلى ذاتك , وإنتبه لطريقك، وإعلم أنه ليست كل الصحراء سراب، وفي الصمت خير وفي الغيب رحمة، إجعل إبتسامتك صافية كالماء، ساحرة كاليل، هادئة كالصبح، إجعل كلماتك حانية كريش النعام ، طيبة كرحيق الياسمين، ولمساتك دافئة كالدمع.

ولكنهم ياأبى يعبثون بكل شئ، بأحلام البسطاء وإبتسامة الطيبين، أصبح الجشع سمة العصر والضباع حاصرت الغابة... ياابي علمتني أن أكون طيب، أزرع الأرض، أنشر الخير، أعطى السائل، أعلم الساعي، أعين المحتاج، ولكن ماعلمتني كيف ألقى هؤلاء الحمقى.

قال ياولدي: صنائع المعروف تفعل ياولدي، صنائع المعروف تكفى، فالخير حصنك ياولدي، والعلم سبيلك ياولدي، والتقوى زادك ياولدي.

ليلى الشبراوى

ليلى الشبراوى

كاتب

Laila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.

تصفح صفحة الكاتب

اقرأ ايضاّ