
تخرجت من كلية الهندسة وبدأت العمل مباشرة في تنفيذ إنشاءات بسيطة في القرى المجاورة كان أكبر مشرع تعاقدت عليه خلال الثلاث سنوات الأولى هو مسجد على مساحة الف متر مربع، وبعض العمارات في مدينة المنصورة ومدينة جمصة... بعد ذلك بدأت في تأسيس شركة للمقاولات المتكاملة حتى أتمكن من العمل في المناقصات الحكومية.
بدأت مرحلة جديد ة في حياتي كانت أشبه بمصارعة الحيتان، كان عمري وقتها سبعة وعشرون عاما وعندما تقدمت لأول مناقصة (إنشاء إدارة ومخازن بمضرب ديمشلت التابع لشركة مضارب الدقهلية)، وكانت هذه البداية أشبه بالإقدام علي الإنتحار، كنت أعلم جيدا أن طريق النجاح يبدأ إما بــ شخص يكسر قلبك أوصديق يخيب ظنك أوصاحب نفوذ يظلمك، حتي تيأس فيما عند الناس وتلجأ إلي الله فيغنيــــــك.
بادرت بشراء كراسة الشروط والمواصفات من مقر الشركة بالمنصورة وعلمت بموعد جلسة فتح المظاريف وقمت بدراسة العطاء بنفسي وللمرة الأولى في حياتي وفي الميعاد المحدد للجلسة في الساعة الثانية عشر ظهرا حدثت المفاجئة، وجدت أشكال المقاولين الجالسين معي بقاعة المؤتمرات المنعقد بها الجلسة نفس الأشكال الموجودة في مزادات عبد الغفور البرعي ولا يوجد مهندسين بينهم، فهم أشبه بمن يحضرون المزادات في الأفلام المصرية القديمة، وحضرت اللجنة وتم فتح المظاريف وكنت أنا اقل الأسعار وحدثت مفاجئة للجميع... تعالت الأصوات داخل القاعة من يكون هذا، ومن أين اتيتم به، ومن أخبرك بميعاد الجلسة، فكان ردي بسيطا جدا، لقد قرأت الإعلان في الصحف وقمت بشراء كراسة الشروط والمواصفات وبالتالي حضرت في الميعاد المدون بها، إنت مش عارف عملت ايه، إنت وضعت نفسك في النار... يعني ايه وضعت نفسي في النار، طيب ليه بتعملوا إعلان بالصحف طالما إنكم بترسوا العطاء على واحد منكم، وجهت حديثي للجنة: إيه المطلوب مني... دا معناه إن المناقصة رست على شركتي فما هي الإجراءات المتبعة لاستكمال المستندات وبدأ التعاقد والبدأ في التنفيذ، ولم أعر أي إهتمام ل الاصوات الرنانة من هنا وهناك.
هاج الجميع فكانت أشبه بالتحضير لمعركة حربية وهناك خلاف بين القادة على ادارة المعركة ومواعيد القتال، والخلاصة لابد من إعادة المناقصة مرة أخرى، كيف يتم ذلك وهذا فيه مخالفة للقوانين ومن يتحمل مصاريف الإعلان، شمرت عن ساعدي وقررت خوض غمار المعركة وحدي مع الجميع.
وهنا لي وقفة معك عزيزي القارئ: لا تخف أبدا من أن تمضى فى طريقك وحيدا وعليك أن تعرف أى الطرق طريقك، فسر فيه مهما حدث ولا تشعر أن عليك إتباع خطوات الآخرين، وقررت بأن إرادتي هي التي ستشكل حياتي، سواء فشلت أو نجحت ، فنجاحي أو فشلي من صنعي أنا، وليس من صنع أيّ شخص آخر، وأنا وحدى من يمتلك قوة الإرادة، أنا من يستطيع إزالة كل العقبات من أمامي، أنا وحدي مالك قدري، فزت أم خسرت، ف الاختيار هو اختياري، والمسؤولية هي مسؤوليتي مهما كانت تحديات الحياة التي تواجهك، وتذكر دائماً أن تنظر إلى قمة الجبل، فأنت بهذا تتذكر العظمة وتنظر إليها، تذكر هذا ولا تدع مشكلة ما أو أمراً ما مهما بدا لك خطيراً أن يثبط من عزيمتك، ويضعف من قوة إرادتك، ولا تدع شيئاً ما مهما كان أن يصرفك عن القمة، هذه الفكرة هي الوحيدة التي أريدك ألا تتخلى عنها.
إكتشفت أن أحشائى تغلى، وان اسرابا من النمل تسير فى قدى وركزت على قوة إرادتي لابد أن تظهر في أصعب الظروث ، وقوة الإرادة ليست سباقاً طويلاً، وإنّما هي مجموعة من السباقات القصيرة، سباق إثر سباق... إعتقادي أنني أتحمل ما لا يحتمل، وأملك من قوة الإرادة ما يجعلني لا أفكر إلا نحو القمة، هو الذي يساعدني على الاستمرار، وإنني وإن هزمت إلا أنني لم أستسلم، فإرادتي لا تهزم... نحن ندرك دائما أنّ العزيمة الكاملة هي وحدها الطريق الوحيد التي تجعلنا قادرين على أن نخطو خطواتنا الأولى نحو التحرر والقوة، وأنّ قبولنا بالضعف الشخصي يتحول في النهاية ليكون صخرة صلدة أو إرادة قوة لا تهزم، يمكن أن تشيد عليها حياة سعيدة هادفة , حقاً ستكون حراً إذا لم يكن لك في نهارك شاغل، وإذا لم يكن ليلك مليئاً بالاحتياجات والأحزان، ولكن عندما تمتلئ حياتك بكل هذا ستجد نفسك ناهضاً، شامخاً، متسامياً عليها، منطلقاً، متحرراً من أغلالها، فأنت عند ذلك ستكون أكثر حرية، وإرادة لمواجهة الحياة.
طلبت الإتصال بالمكتب الإستشاري المشرف على المشروع ومن حسن حظي كان مكتب الدكتور أحمد النمر وهو استاذ التربة بكلية الهندسة وقتها وعميد الكلية، وكان يعرفني بصفة شخصية من أيام الجامعة، وطلبت منه الحضور للوصول إلا حل وإلا سوف أقوم بتصعيد الامر إلى الجهات العليا والتمسك بحقي في إتخاذ كافة الإجراءات القانونية... حضر الدكتور أحمد في خلال نصف ساعة كانت أشبه بقاعة أفراح تتعالى فيها الأصوات وتزداد الخلافات واللجنة لا تستطيع إتخاذ اي قرار في وجود مجموعة المقاولين (حيتان السوق) كما يطلق عليهم، وبعد مناقشات عديدة إتخذت اللجنة قرار بتحويل المناقصة إلى ممارسة وهذا أشبه بالمزاد، وكانت فرصة لهم حتى يتمكنوا من المنافسة مرة أخرى، ووافقت على ذلك بعد فترة وفي النهاية بعد المزايدة، نزلت أسعار البنود أكثر من 30٪ واتفقوا على إغراقي حتى يتمكنوا من إفلاسي في أول عملية حتى لا أتجرأ في المرات القادمة من منافستهم، وبعد رسو العطاء مرة أخرى على شركتي إشترطوا علىّ ان أقوم بمضاعفة مبلغ التأمين النهائي من 5٪ الي 10٪ وذلك لعدم وجود سابقة أعمال مماثلة من جهة حكومية، وكيف يتم ذلك وهذه أول مناقصة في حياتي، وكنت دائما ما أحدثت نفسي قد لاتكون الأمور على ما يرام الآن، لكن تأكد أنها ستمضي تفاءل خيراً، وأحسن الظن بأن ربك سيعوضك خيراً قريباً.
وافقت على ذلك وزادت قناعتي وإصراري على الاستمرار في إجراء التعاقد وأشفق على حالتى الدكتور أحمد وقتها ولجنة البت مما شاهدوه من الحيتان، ثم وافق الجميع على إتمام إجراءات االتعاقد مباشرة عندما وجدوا أصراري على ذلك.
كانت مدة التنفيذ أربعة شهور فقط وهذه من المعوقات الأخرى حيث يتم هدم الادارة والمخازن القديمة وإعادة الإنشاء في هذه المدة القصيرة، والمخازن كانت بمساحة 12*36 متر مربع، فكان لابد من وضع خطة مالية سريعة وبرنامج زمني وإلا لن تقوم لي قائمة بعد ذلك.
قمت بعمل زيارة للموقع في نفس يوم الجلسة للإطلاع على أي عوائق أخرى ممكن ان تظهر أثناء التنفيذ وقابلت إدارة المضرب، تم قمت بتدبير مبلغ التأمين في خلال أسبوع من تاريخ الجلسة وذهبت للادارة لتوقيع العقد بعدها بيومين وتم إستلام الموقع بعد خمسة عشر يوما من ميعاد الجلسة، وكان لابد من توريد جميع الخامات والسلع المطلوبة للتنفيذ في أقرب مدة حتى لا نتعرض إلى تقلبات السوق وإرتفاع أسعار مواد البناء والتشطيبات، وفي هذه الحالة يستحيل إستكمال التنفيذ، وبذلك أكون شاركت في تنفيذ رغبة الحيتان في هدم شركة لم تنشأ بعد... وكما تعودت فى حديثى مع نفسى: كيف يتم ذلك ويستحيل توفير المبالغ المالية اللازمة لذلك فى مدة قصيرة جدا، إعتمدت على سمعة السنوات السابقة في المنطقة المحيطة بالأعمال التي قمت بتنفيذها وتم توريد جميع الخامات بشيكات مؤجلة وكانت مجازفة لابد منها، وليس لها بديل، لذلك عوّد نفسك أن تعمل بلا تشجيع، وأن تنجز دون تصفيق، وأن تثق بنفسك، بصرف النظر عن راي الآخرين... وكان لابد لي من التنفيذ بأقل الأسعار وفي مدة محدودة، وفعلا قمت بشراء معدات التكسير اليدوية وإتفقت مع عمال الشركة الأبطال من كل التخصصات (البنا، الكهربائي، السباك، النجار، الحداد) مع كل عمالهم وقاموا بتكسير الأسقف بالمعدات اليدوية في أول يوم عمل وهدم الجدران، وبلغنا من يقوم على مآذن القرية بأن ينادي في الناس من يحتاج طوب فليخرج الي مكان المضرب، وتركنا الموقع يوم وليلة وقد إستوى بالأرض.
قمنا باستئحار حفار وتم حفر الأساسات في اليوم الثالث، وإستمرت الأعمال بسرعة غير مألوفة مما نال إعجاب الجميع وأولهم الإستشاري حتى تم إنجاز الهيكل في نصف المدة المتفق عليها في البرنامج الزمني المقدم منا للإدارة.
لدرجة أنه تم ترتيب زيارة لجنة من الشركة الأم بالقاهرة مع رئيس مجلس الإدارة للوقوف على الحلم الذي تم تنفيذه على أرض الواقع في خلال شهر واحد وهو ربع المدة المطلوبة للتنفيذ، وقاموا في اليوم التالي بإرسال شهادة تكريم للشركة المنفذة وكانت هذه أجمل شهادة إستفدنا منها في المناقصات اللاحقة ومنها إنشاء كباري على ترعة البوهية بإدارة رى شرق الدقهلية، إنتهت الأعمال قبل المدة المقررة وقمنا بتحرير محضر إستلام إبتدائي وكانت أجمل بداية في تاريخ الشركة، و ما تعلمته من هذه التجربة الشاقة: لا تقارن نفسك بأحد، أنت لديك حياتك وظروفك وأفكارك وشخصيتك وتكوينك وأقدارك الخاصة، إفعل الخير والصواب وإمضي ولا تقارن حتى لا تتأخر وتنشغل.

ليلى الشبراوى
كاتبLaila El-Shabrawy is an engineer, writer and designer who have more than 100 books in literature, science and mathematics.
تصفح صفحة الكاتب