متاهةُ اللّاوعي، رحلة فى أعماق العقل والرّوح
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخولالبداية فى متاهةِ اللّاوعي
في لحظةٍ لا يُمكنني تحديدها على خطِّ الزَّمن، وجدتُ نفسي غارقًا في مأزقٍ غريب؛ حيث قد نسيتُ نمط هاتفي.
ليس بنسيانٍ عاديّ، بل أشبه ببابٍ كان مفتوحًا منذ لحظاتٍ وأغلق فجأةً دون أن أعرف المفتاح.
تلك الدّقائِق التي كنتُ أستخدمُ فيها الهاتفَ بحركةٍ عفويةٍ أصبحتْ ذكرى بعيده، وكأنّها حدثتْ لشخصٍ آخرَ غيري.
البحث عن المفتاح المفقود
حاولتُ مرارًا أن أستعيدَ ما كان. أصابعي ترتسمُ فى الهواءِ محاولةً فكَّ القفل، ولكن بلا جدوى. شيء ما بدا مفقودًا، كما لو أنّني ضللت فى متاهةٍ داخل عقلي، متاهةٌ زادت عمقًا كلّما ألححتُ فى البحث عن المخرج، حاولتُ إقناعَ نفسي أن الهاتفَ هو المشكلة، لكن الحقيقة كانت في داخلي، بين الوعي واللّاوعي.
اللحظة التي تتسلل فيها الذاكرة
حين فقدت الأمل، تركتُ الهاتفَ جانبًا واستسلمتُ لتأمّل العالم. كانت الشمس في طريقها إلى الغروب، تلوّن السماء بدرجاتٍ دافئة، كأنّها ترسم لوحةً وداعيةً للنّهار. وقفتُ هناك، أنظر إلى الأفق وأفكّر: "لماذا تنسى الأشياء؟! وأين تختبئ حين تغيب؟
فى لحظةٍ من الشّرود، رفعت الهاتف دون شعورٍ مني. تحركتْ أصابعي بتلقائيّة، ورسمتِ النّمطَ دون أدنى إدراك. استغرقتُ بضع ثوان لأفهم ما حدث: "لقد فتحته!" لقد صرختُ، كما لو أنّني اكتشفتُ سرًّا عظيمًا. لكن فرحتي لم تكتمل؛ لأنّني لم أكن أتذكّر كيف فعلتُ ذلك.
اللّاوعي كمسار للإجابات المخفية
أعدتُ قفل الهاتف، وأعدتُ المحاولة، ولكنّني عدت إلى النّقطة ذاتها: ذاكرة مغلقة، نمط مفقود. وكأن اللّاوعي الذي منحني المفتاح قبل لحظاتٍ قد سحب يده فجأةً، وتركني أمام بابٍ مغلق مرة أخرى.
لاحقًا في سيارة مزدحمةٍ مع أصدقائي، كنت منشغلا بالحديث. احتجتُ للإتّصال بأحدهم، فأمسكت بالهاتف. بلا وعيٍ، وبحركةٍ عفويةٍ أخرى، فتحتُ الهاتف مجدّدًا! شهقتُ من الدّهشة، وقلت لهم:"فتحته مرة أخرى!" لكن حتى تلك اللّحظة، ظلّ النّمط غائبًا عن ذاكرتي الواعية.
رحلة إلى أعماق العقل الباطن
بدأتُ أتساءل: كيف يمكنني الوصول إلى اللّاوعي؟ كيف أطرق أبوابه بينما أنا في كامل وعيي؟ أدركت أنّ الطّريق ليس مباشرًا، هو مثل الغروب، لا يمكنك استعجاله، بل عليك أن تنتظره ليظهر في وقته الخاصّ.
حين قررتُ التوقّف عن المحاولة، وأخذت لحظة للتأمّل، عادت الذكرى فجأة. تذكرت النمط، وتذكرت تفاصيل الحركة التي أنقذتْني من المأزق، لكنّني خرجتُ من تلك التجربة بشيء أعظم من مجرّد استعادة النّمط. أدركتُ أنّ عقلنا الباطن ليس مجرّد مستودعٍ للذّكريات، بل هو مستودعٌ للأسرار، للحلول، وللقوة التي نحتاجُها في لحظاتٍ لا نتوقعها.
اللاوعي بين العلم والروحانية
لقد شغل اللاوعي العلماء والفلاسفة على مرّ العصور.
فرويد تحدث عنه باعتباره مستودعًا للرغبات المكبوتة.، بينما رأى يونغ فيه عالماً أعمق، حيث تسكن الرّموز والأساطير التي تربط البشر جميعًا. لكن بعيدًا عن التحليل النفسي، هناك من يرى أن اللّاوعي ليس مجرّد عمليات عقلية غير مدركة، بل بوابة إلى مستوى آخر من الإدراك، حيث تتلاقى الرّوحانيات والحدس. فكم من مرة شعرنا بإحساس داخلي يقودنا إلى اتخاذ قرار صحيح دون أن نعرف السّبب؟ أليس ذلك نوعًا من القوى الرّوحانيّة التى تنبع داخلنا؟
التوازن بين العقل الواعي والباطن
إذا كان اللاوعي بهذه القوة، فهل علينا أن نعتمد عليك بالكامل؟ الحقيقة أن التّوازن هو المفتاح. العقل الواعي هو منظمُ حياتِنا اليوميّة، يخطّط، يحلّل، ويتخذ القرارات بناء على المعطيات المتاحة، أما العقل الباطن فهو المصدر الذي يغذي هذا الوعي، ويمنحه الإلهام والإجابات فى اللحظات غير المتوقّعه. مثل عازف البيانو الذي يتدرب لسنوات، ثم فى لحظة الأداء، تخرج الموسيقى بسلاسة كما لو أن أصابعه تتحرك دون تفكير. ذلك لأن اللّاوعي قد تولّى المهمة.
كيف نستفيد من قوة اللّاوعي
إذا كان اللّاوعي بهذه الأهمية، فكيف يمكننا الوصول إليه بوعينا؟ هناك طرق عدة تساعد فى ذلك، مثل التّامّل، والتّدوين الحرّ، وحتى ممارسة الأنشطة الإبداعيّة التى تسمح للعقل الواعي بالتراجع قليلًا، مما يمنح العقل الباطن المساحة ليعبر عن نفسه. أحيانا تكون الإجابة التى نبحث عنها موجودة، لكنها تحتاج منا أن نصمت قليلا لنسمعها.
خاتمه: القوة فى الصمت والتأمل
العقل الباطن هو ذلك الظل الذي يرافقنا دائما، يحمل ذكرياتنا وأحزاننا التي تعود لتطفو من جديدٍ دون سابق إنذار، وأظن أنه قد يكون بسبب ذلك نحزن فجأة. ولكنه أيضا يحمل إمكاناتنا العظمى، كم مرة تجاوزنا ما ظنناه مستحيلا، دون أن نفهم كيف؟ كم مرة ظهرت الإجابة حينما كففنا عن طرح السؤال؟
ما حدث لي كان أكثر من مجرد موقف عابر، كان نافذة إلى أعماقي، إلى تلك القوّة التى نمتلكها جميعا، ولكننا لا نراها إلا حينما نتركها تتحرّر. أدركت أن القوّة الحقيقيّة ليست فيما نعرقه عن أنفسنا، بل فيما يختبئ فى داخلنا، بانتظار الفرصة المناسبة ليظهر.
فلنراقب أنفسنا كما نراقب الغروب: فى هدوئه جمال، وفى غموضه حكمة. هناك دائما شيء ينتظر أن يكتشف، سر فى أعماقنا قد يقودنا إلى فهم أعمق للحياة.
ربّما ما حدث كان مجرّد فصل صغير من قصة أكبر، فصل يذكرنا بأنّنا نحمل فى داخلنا عوالم خفية، وأن الطريق إلى تلك العوالم ليس بالضّغط أو الإلحاح، بل بالهدوء والثقة. في كلّ واحد منا قوّة هائلة، تنتظر اللحظة المناسبة لتقودنا نحو نورٍ جديد.
سؤال يراودني!
من يقود من
بعد هذه الرّحلة فى متاهة اللّاوعي، يبقى سؤال فلسلفي مفتوح: هل نحن نمتلك اللّاوعي، أم انّه هو من يمتلكنا؟ هل يؤثر حقا على وعينا لدرجة أن نشكّ فى قراراتنا إذا كانت حقا نابعة من وعينا الكامل أم لا؟ أم أن اللّا وعي يشكل جزءا كبيرا من مسارنا دون أن ندرك ؟!
