ليالي الشتاء الباردة بين الحنين للأحباب والوحدة التي تطرق القلوب
قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
في تلك الليالي الطويلة حيث يعم الصمت، ويتسلل البرد عبر الأبواب والشقوق، لا يكون الشتاء مجرد موسم من الفصول. بل هو قصة من الحنين الذي يقتحم القلب دون استئذان، ويرسم على جدران الذاكرة وجوهًا غابت وأصواتًا خفتت. إنه زمن للتأمل والوحدة، حين تصبح اللحظات الصغيرة تفاصيل عظيمة، وتتحول الذكريات إلى مرساة وسط بحر من العزلة.كانت سلمى تتأمل المشهد الخارجي من نافذتها. أمامها شجرة ضخمة فقدت أوراقها مع أولى نسمات الشتاء، بدت كأنها تتحدى قسوة الرياح بصلابة جذورها. على حافة نافذتها، تكوّم الثلج كأنه حارس صامت يراقب الليل. في الداخل، كان الدفء الذي تمنحه المدفأة لا يكفي لتبديد البرد الذي يسكن قلبها.
حنين يعصف بالروح
الشتاء لا يحمل البرد فقط، بل يجلب معه ذكرى الليالي الدافئة التي كانت تضج بالحب. تلك اللحظات التي لم تكن تعرف قيمتها في وقتها. في ذهن سلمى، كانت تتكرر صورة غرفة الجلوس التي كانت عائلتها تجتمع فيها كل مساء. صوت والدها وهو يروي قصصه القديمة التي مزجت بين الواقع والخيال، ضحكات أمها وهي تراقب الجميع بحب، وأختها الصغيرة التي كانت تتسابق لجلب الحلوى.ولكن، كل شيء تغير. السنوات أخذت معها الأحباب، وترك الزمن فراغًا كبيرًا في قلب سلمى. أصبحت تعيش وحيدة في بيت امتلأ يومًا بالضجيج، والآن لا يزوره سوى الصمت.
الوحدة: صديقٌ غير مرحب به
لم تكن الوحدة غريبةً عن سلمى، لكنها في ليالي الشتاء الباردة كانت تزداد وطأةً. كان الصمت في تلك الليالي يحمل ثقلًا، كأنه يريد تذكيرها بما فقدته. لم يكن هناك سوى صوت عقارب الساعة الذي يملأ المكان، كأن الزمن يتآمر ليذكرها بكل لحظة مضت.كانت الوحدة تجعلها تبحث عن أي شيء لتملأ به الفراغ. أحيانًا كانت تقرأ رواية، وأحيانًا تستمع إلى الموسيقى. لكنها، وفي كل مرة، تجد نفسها عائدة إلى نفس النقطة: الحنين.
كانت الذكريات تتسلل إليها بلا استئذان. تتذكر ليلة شتاء بعيدة عندما تعطل التيار الكهربائي، واضطروا للجلوس حول شمعة صغيرة. رغم الظلام، كان البيت ممتلئًا بالدفء. تذكرت كيف كانت أمها تمسك بيدها وتغني أغنية قديمة، وكيف كان والدها يروي نكتة تجعل الجميع يضحك.
قوة الذكريات وأثرها
رغم أن الذكريات كانت تأتي محملة بالحنين، إلا أنها كانت تحمل أيضًا دفئًا غريبًا. شعرت سلمى بأن هذه اللحظات القديمة تعيدها للحياة، تمنحها دفعة صغيرة لتكمل يومها.كانت ألبومات الصور هي ملاذها. في كل صورة، كانت ترى حياةً مختلفة، أشخاصًا يبتسمون ووجوهًا مليئة بالحب. هناك صورة تجمعها بعائلتها حول مائدة الطعام. أمها تعد الشاي، وأختها تعبث بشعرها، ووالدها ينظر للجميع بفخر.
"هل يمكن أن تعود هذه الأيام؟" تساءلت في نفسها. لكنها سرعان ما أدركت أن الزمن لا يعود، وأن تلك الذكريات هي كل ما تملكه الآن.
الحنين: ضريبة الحب
مع مرور الأيام، بدأت سلمى ترى في حنينها معنى آخر. أدركت أن هذا الألم الذي تشعر به هو دليل على الحب العميق الذي عاشته. كيف يمكن للقلب أن يفتقد شيئًا لم يكن له أثر كبير؟بدأت سلمى تبحث عن طرق لتكريم ذكرياتها بدلًا من الهروب منها. عادت لتطهو وصفات والدتها المفضلة، وترتل أغانيها القديمة. بدأت تدون حكايات والدها في دفتر صغير، لتبقي صوته حيًا بين السطور.
البحث عن الدفء وسط البرد
في أحد الأيام، قررت سلمى أن تتصل بأختها التي غابت عنها لسنوات. كانت المكالمة بسيطة، لكنها ملأت البيت بصوت مألوف افتقدته. استمرتا في الحديث لساعات، تتبادلان الحكايات وتستعيدان الذكريات.بعد المكالمة، شعرت سلمى بشيء مختلف. لم يكن الحنين قد رحل، لكن الوحدة بدت أقل قسوة. أدركت أن الشتاء، بكل برودته، يمكن أن يكون فرصة لإعادة بناء الجسور التي هدمها الزمن.
الخاتمة: الحب الذي يظل حيًا
في كل شتاء، وبينما تتراكم الثلوج وتطول الليالي، تتعلم سلمى درسًا جديدًا عن الحب والحنين. أدركت أن الذكريات ليست عدوًا، بل هي كنز يحمل معه الدفء. وأن الوحدة ليست نهاية، بل بداية لرحلة أعمق مع الذات.الحنين للأحباب لن يختفي أبدًا، لكنه يصبح جزءًا من قوة الروح. وفي نهاية كل ليلة شتوية، عندما تنطفئ الأنوار، تجد سلمى في داخلها شعلة صغيرة تضيء طريقها، شعلة الحب الذي عاشته، والذكريات التي تجعلها تشعر بأنها ليست وحدها.
فاروق الغمراوي
د. فاروق الغمراوي «دكتوراه في الدراما والمسرح العربي»مخرج وممثل وشاعر غنائي وصاحب مجله رواد في سطور الإلكترونية
تصفح صفحة الكاتب