مقدمة

- في ردهة الجامعة العتيقة، اجتمعت خمس أرواح مختلفة خلف حلم واحد: أن يتخرجوا ويبنوا مستقبلهم بأيديهم. كانت سلمى تقرأ الكتب بنهم، وياسر يناقش الأفكار بحماس، ومها تلوح لكل جديد بالفضول، وكريم يسجل الملاحظات بدقة، وآدم يبتسم كالعهود يربط بينهم شعور بالانتماء. صداقة تكوّنت بين دفء الجلوس على العشب وبين صخب القاعات، أشكالها متعددة لكنها متعارفة دائماً.
في خضم المحاضرات والاختبارات العصيبة، وُلدت معهم مشاعر كبيرة. ضحكاتهم ارتبطت بخطط مستقبلية مشتركة، يعقدون العزم على النجاح، ويرسمون طريقهم بثقة الشباب. لم يكن أحد يتوقع أن الأيام ستحملهم بعيداً، لكن جامعتهم عرفت كيف تزرع في قلوبهم بذور التفرّق قبل نهاية الفصل الأخير.
الفصل الأول: تفتت الأحلام
مع انتهاء آخر اختبار ونهاية حفل التخرج، بدا الأفق أوسع ومخيفاً في آن واحد. تراشقت الوعود بالبقاء على اتصال، وتعاهدوا على اللقاء الدائم. في لحظة وداع، اندفعت أحضانهم وكأنها ستذيب سلاسل الفراق، لكنهم غادروا في سياراتهم وأحلامهم سارية الخُطا في اتجاهات متباعدة.
سلمى تلقت منحة دراسية للعاصمة لندن، غادرت بحقيبتي ملابس وخريطة لحياة جديدة. ياسر عيّن مدرساً في قرية نائية عند البحر الأحمر، تفرّغ لنشر المعرفة. مها انتقلت للعمل في دبي، بحثاً عن فرص مالية أكثر، بينما اختار كريم الإسكندرية ليبدأ مشروعه التجاري الصغير. وآدم بقي في المدينة مسكوناً بذكرياتهم، يفتش عن وظيفة قريبة من دفء الصداقة التي اعتادها.
الفصل الثاني: الطريق المتعرج
في دبي، وجدت مها نفسها بين ناطحات السحاب وضوضاء الأسواق. حققت نجاحاً سريعاً في شركة ناشئة، وصارت تدير فرقاً من المهندسين والمصممين. مع ذلك، شعرت أحياناً بوحدةٍ تفوق ضجيج المدينة، فالإنجازات المهنية لم تُسَمّن صدرها بشوق الذكريات القديمة.
على ضفاف البحر الأحمر، بنى ياسر فصلاً دراسياً صغيراً لطلابٍ لم يعرفوا سوى الأمية. أعاد اكتشاف حبه للتدريس ووجد سعادته في حسنة تنير أعين الأطفال. لكنه كان يفتقد حماسة زملائه، وغاب عنها وردٌ على توقه لصحبة جمعتهم قاعات الجامعة.
في الإسكندرية، واجه كريم مصاعب المشاريع الناشئة، إذ انهارت شركته بعد عامين من العمل. انتهى به المطاف إلى استئجار مقهى صغير على الكورنيش، يبيع القهوة ويكتب مذكرات فاشلة عن النجاح. جلس وحيداً يراقب البحر وينظر في صورتهم القديمة على هاتفه، يتساءل عن المسافة التي تفصل بين الطموح والواقع.
بعيداً عن ضوضاء المدن الكبرى، دخلت سلمى في دوامة البحث عن الذات بين المكتبات وورش الكتابة في لندن. نشرت مجموعتها الأولى من القصص الصغيرة، لكنها كررت في كل حوار كيف أن الهجرة تركت أثراً من الشوق في حناياها. لم يتوقف حنينها إلى وجوههم عن التدفق كجدول ماءٍ لا يعرف الجفاف.
آدم، رغم بقائه في المدينة الجامعية نفسها، لم يستطع الانخراط في روتين جديد. عمل موظفاً في دائرة حكومية، وبين الطوابير ورفيق المكتب، ظل يحمل في قلبه ذاكرةً عن الفرقاء، لا يمر أسبوع دون أن يتصل بأحدهم، فتأتي الرسائل أحياناً بلا رد، ويحلّ الصمت ضيفاً ثقيلاً على هاتفه.
الفصل الثالث: شرارة اللقاء
بعد خمس سنوات على التخرج، صدرت دعوة لحفل تكريم أستاذهم المحبوب الدكتور هشام بمناسبة تقاعده. وصلتها عبر البريد الإلكتروني من إحدى الزميلات القدامى. كانت الدعوة تحمل توقيع الجامعة القديمة مع تاريخ ومكان الحفل في نفس القاعة التي شهدت أول حضور لهم يوم تسجيل المواد.
قرأ ياسر الدعوة بجانب نوافذ الفصل الصغير، توقف قلبه لحظة، ثم قرر أن يرهن تردده بالقرار الأصعب: السفر ليلة الحفل. في دبي، وقفت مها تتأمل الدعوة المطبوعة بعد أن طبعتها من بريدها الإلكتروني. تذكرت ضحكات سلمى وكريم، وارتفع في صدرها حنين الطفولة الجامعية. أرسلت رسالة للحضور قبل موعد السفر بيومين.
سلمى في لندن تجاهلت الرسالة أولاً، لكنها لم تستطع مقاومة رغبة فطرية في العودة. أضحت صورة الأستاذ هشام محفورة في دفترها مثل بقايا حلم لم يكمل. حجزت تذكرة على عجل، وكتبت لآدم: اليوم اللقاء لا يقبل التبرير.
كريم، رغم إخفاقاته، وجد في الدعوة فرصة لا تتكرر لإغلاق دوائر الألم. اشترى تذكرة الإسكندرية إلى المدينة الجامعية، وحضّر قضية قهوته الخاصة كهدية تذكارية. حضر دون أن يعلم ما ينتظره بالضبط.
الفصل الرابع: من جديد
عند مدخل القاعة التي تغيّرت ملامحها قليلاً، التفتت وجوههم بلا مقدمات. ارتسم توهج في عيونهم قبل الكلمات. اندفعوا بعضهم إلى بعض، تغيب الخمس سنوات في لحظة، وأعاد الضحك الذهبي ما خُطف من عمر العلاقة.
صعدوا إلى المنصة لمداواة جراح الزمن. تحدث كلٌ عن رحلته، وعن الدروس التي تعلمها من الفشل والنجاح. اجتمعوا ليذكروا كيف كان شغفهم يتغلغل في أقواس الجامعة، وكيف آمنت كلّ منهم بالآخر أكثر من نفسه. تحدثت سلمى عن الوحدة التي كافحتها، ومها عن سرورها بالاستقلال، وياسر عن سعادته في العطاء، وكريم عن نبوغ القهوة وصخب الحلم.
عقب الحفل، خرجوا معاً إلى الباحة حيث الأضواء الخافتة تحيط بالأشجار القديمة. جلسوا على مقاعد الحجر، يرددون أغنية قديمة كانت تملأ أرجاء السفريات القصيرة بين محاضرات الفوتوشوب والفيزياء. انسابت الكلمات بين أصوات الريح، وكأن الجامعة أرادت توديع أعز طلابها على طريقتها الخاصة.
تبادلوا القصص عن الحياة: كيف أسلم مها قلبها لفكرة جديدة مشروع، وكيف علّم ياسر القرية القراءة، وكيف نما مقهى كريم ليصبح ملتقى أدباء وموسيقيين، وكيف طوت سلمى صفحات كتابها الثاني، وكيف ابتعد آدم عن وظيفته ليتفرغ لمشروع تطوعي. لم تكن مجرد سرد للمآثر بل تجسيدٌ لصمود صداقتهم أمام التباعد الجغرافي.
في لحظة هدوء، صاح أحدهم: إننا اليوم أكثر قرباً مما كنا قبل التخرج. نظرت الأعين بعضها في بعض، ووقف الإحساس بأن المسافات لا يمكن أن تمنع قلباً ارتبط بقلوب الآخرين. عادوا بعد منتصف الليل إلى المقهى القديم، حيث جلسوا على الطاولات الصغيرة وكأنهم يعودون لأيام الدراسة.
الخاتمة
انفضّت الأمسية على وعدٍ جديد بالبقاء على اتصال، وبناء قصصٍ تضارع حكايات الجامعة. عاد كل منهم إلى حياته، لكن هذه المرة بخيوطٍ أوثق تربط الماضي بالحاضر. أدركوا أن الصداقة ليست مجرد لحظات تشاركوا فيها الكتب والأحلام، بل هي روحٌ ترفض أن تموت رغم تقلبات القدر.تبقى ذكريات الجامعة عطر الطريق الذي يسلكه كلٌ في حياته، وتبقى شعلة اللقاء تجدد في نفوسهم العزيمة على عدم التفريط في الثالوث الأعظم: الثقة والوفاء والارتباط المتبادل.
عن الكاتب
الكاتب المتألق طارق عاطف
كاتب فني و ابداعي