رواية «مالك بن نبي» في صفحات : لبّيك ... حجّ الفقراء

نزيهة  زعبار

كاتبة و مترجمة و مدققة لغوية

تاريخ النشر :
وقت القراءة: دقائق

رواية «مالك بن نبي» في صفحات : لبّيك ... حجّ الفقراء

"لبّيك: حجّ الفقراء":

                                                   حجّ الفقراء ...

النداء:

"عنّابة":

إبراهيم الثّمل:

الحلم:

_ أجل، لقد حلمت بالكعبة.. .
شيئا فشيئا بدأ حُلُمه يتّضح، لقد رأى نفسه بلباس الإحرام؛ اللّباس الذي يرتديه الحاجّ خلال أدائه لمناسك الحجّ.
فجأة، تسلّل إلى قلبه إحساس بالخطأ بسبب وجوده هنا، في محلّ الفحم، و على هذا الفراش الحقير. و بدأت نشوة الحُلُم الذي رآه في نومه و في يقظته تتلاشى حين أدرك حالته الرّاهنة و الأشياء القاتمة التي تحيط به. و انتابه إحساس بالاختناق جعله يعتدل متّكئا على ذراعيه فوقع نظره على قدميه الممدودتين و المنتعلتين حذاءه القماشيّ الذي لم ينزعه منذ البارحة حين تهاوى على فراشه.
أحسّ إبراهيم بخجل مضاعف من فردتي حذائه: حذاؤه الذي لم يكن يلبس مثله سوى (أولاد الحرام) مثلما يطلق على السّفلة في "الجزائر"؛ فحذاء كهذا بالنّسبة إلى النّاس الطّيبين من الجيل السّالف لا ينتعله إلّا قطّاع الطّرق أو أشخاص في منتهى النّذالة لكي يفاجئوا غيرهم دون إصدار صوت أو للفرار بسرعة.

الأذان: الفكرة - المعجزة

فجأة، انطلق صوت مؤذّن الفجر الذي اخترق السّكون الذي يلفّ المدينة النّائمة و بثّ في أزقّتها الخالية الصّدى الدّاعي إلى الصّلاة:_ الله أكبر! الله أكبر!
و حين ردّد الصّوتُ نداءه الأخير على المدينة النّائمةّ: (حيّ على الفلاح! الله أكبر! لا إله إلّا الله) تراءى له بغموض تناقض ما كان قد تجلّى بداخله من قبل. في هذه اللّحظة كان إحساسه بالاستسلام إلى المكتوب (القدر) و ذلك الانجذاب الذي أحدثه صوت المؤذّن في نفسه يتصادمان. لكنّ طبيعته حادت به عن التّفكير في مثل هكذا تناقض؛ فعقله كان يرفض حلّ هذا الجدال الشّائك الذي تشمئزّ منه نفسه، و اكتفى سرّا فقط بترديد قول المؤذّن: "حيّ على الفلاح".
"حيّ على الفلاح"
فجأة، أحسّ بنفور تجاه المكان و تجاه كلّ الأشياء القاتمة المحيطة به فأراد الخروج، و تنبّه أنّه منذ زمن بعيد لم يشهد طلوع الفجر و لم يستنشق نسيم الصّباح العليل.
تردّد لحظة في الخارج ثمّ اتّجه بعفويّة نحو الشّمال باتّجاه المسجد الذي لاحت له منارته. تملّكه إحساس بالضّيق شلّه و منعه من تخطّي الباب و كأنّ قوّة ما تدفعه إلى الوراء. إنّه يعرف هذه القوّة التي تمنع كلّ مسلم من تجاوز عتبة المسجد أو من تناول المصحف إذا لم يكن على طهارة. رفع إبراهيم عينيه متضرّعا و قد فاضت عيناه بالدّموع التي انهمرت على خدّيه ثمّ رفع بصره إلى السّماء متمتما:_ يا ربّ اشفني من شروري فأنا مريض، اهدني سواء سبيلك فأنا ضالّ.
كان في عَيْنَيْ إبراهيم وميض و كأنّ تيّارا كهربائيّا قد صعقه؛ لقد وجد أخيرا تفسيرا لحُلُم اللّيلة السّابقة. انتفض واقفا في حركة آلية و قد تناثرت بين قدميه القطع النّقديّة التي كان قد تصدّق بها عليه بعض المصلّين.
_ يا إبراهيم، هذه يمين سكّير.
_ أبدا، هذه المرّة هي يمين حاجّ.
يجب أن تخرج من المنزل ككلّ الحجّاج و ليس كمن لا بيت له، و فضلا عن هذا فكلّ الجيران يدعونك ليودّعوك.
_ لا بدّ أنّ والديك سعيدان الآن يا (سي) إبراهيم.
و قد ملأته كلمة (سي) التي استعملتها العجوز قبل اسمه بالرّضا و السّرور.
كانت (الميدة) تلك الطّاولة ذات الأرجل القصيرة الخاصّة بمسلمي "شمال إفريقيا" قد نصبت و أعدّت. أجلسوا إبراهيم في المكان الشّرفي من المائدة. كان العمّ محمّد و العمّة فاطمة يأكلان معه و مع المدعوّين و كان العمّ محمّد يحيطه بآداب الضّيافة.
_ هذه مؤونة الطّريق، إنّها لك............................
_ لقد أصرّ كلّ الجيران على أن يهيّؤوا لك هذه القفّة.
_ كانت هذه السّبحة لوالدتك -فليرحمها الله- حافظت زهرة عليها بحرص و عندما علمت برحيلك هذا الصّباح أصرّت على أن ترسلها إليك لأنّها أيقنت أنّك جدير بأن تحتفظ بها الآن.
كانت هذه أقدس خدمة يمكن أن يقدّمها الحاجّ لغير الحاجّ؛ بأن يدعو له باسمه و هو متعلّق بالسّياج المحيط بالضّريح الشّريف؛ هذا السّيّاج المهيب الذي تهفو إليه قلوب كلّ المسلمين بعبارات مفعمة بالأماني و الإيمان.
لفت إبراهيم بصوته انتباه طفل كان على المركب يوصل رزمة لأحد الحجّاج. كان أشعث الشّعر، و حافي القدمين، و يرتدي سروالا كثير الثّقوب كغالبيّة أطفال "بونـــة". ظهرت الدّهشة على وجه الطّفل فانفجر ضاحكا:_ يا بوقرعة! يا بوقرعة! أنت أيضا تذهب إلى الحجّ؟!

إبراهيم الحاج:

خلال صلاة الظّهر و التي كانت أوّل صلاة أقامها منذ سنين عديدة أحسّ إبراهيم أنّه انضمّ إلى عائلة الشّرفاء تكسوه عزّة الحاجّ، فالحركات التي كان يقوم بها و الكلمات التي كان يتمتم بها خلف الإمام جعلته يحسّ أنّه انعزل طويلا عن الجماعة الصّالحة كالجنديّ الفارّ من الجيش.
أ رأيت يا رسول الله؟ لقد تركت خيمتي و أولادي كي آتي إليك. لقد قطعت 700 كلم مشيا على الأقدام، و لكنّني لا أستطيع أن أذهب أبعد من هذا يا رسول الله.
كان إبراهيم يستمع بشغف إلى ما قام به هادي ثم قال: _ آه! هؤلاء هم أطفال "بونـــة"...
عندما التحق إبراهيم بمجموعته، كانت تخالجه مشاعر أبويّة نحو هذا الولد الذي وجده على السّطح و قد تحلّق حوله أعضاء المجموعة.
أحسّ هادي بعاطفة واهتمام في صوت إبراهيم الآمر كثيرا ما افتقدهما في "بونة". كان يجد رغبة لا شعوريّة في أن يستسلم لسلطة حنونة و واقية.
كان متلهّفا لأن يتذوّق نكهة الحياة العائليّة التي كان يفتقدها في "بونة" و هو الذي يحتفظ بذكريات غير واضحة عن خيمة بالية غير بعيد عن جسر يعبر "وادي السّيبوس". ماتت أمّه و لحقها أبوه بعد وقت قصير. يتذكّر هادي كيف كان أبوه يسعل سعالا شديدا و يبصق دما و لم يعد قادرا على العمل. و عندما كبر قليلا اتّخذ له علبة لمسح الأحذية تركها بالأمس لولد آخر أصغر منّه سنّا...
ختم الإمام حديث الولد قائلا:كان رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يسرع في صلاته حتّى يخفّفها على الأمّ التي يبكي صغيرها ونحن أيضا سنعجّل في صلاتنا هذا المساء حتّى يرتاح هادي.
عندما كان المركب عند مخرج القناة تراءى لناظر الحجيج ذاك المشهد الضّارب في القدم الذي يحيط ب"خليج السّويس" على اتّساعه و مذكّرا إياهم بالبطولات الدّينيّة. كانوا يشيرون إلى شكل بعيد باتّجاه الجنوب الشّرقيّ بدا و كأنّه جبل، إنّه "جبل الطّور" أو "جبل سيناء" أين تلقّى سيّدنا موسى ألواح الشّرع.
ردّ إبراهيم بنبرة مازحة:_ أنا ممتنّ كثيرا لأنّي في الحقيقة محتاج إلى رَحَمات ربّي أكثر من احتياج هادي إلى قطعة قماش._ يا هادي تعال يا بنيّ حتّى أقيس عليك ما يكفيك من القماش.
رواية «مالك بن نبي» في صفحات : لبّيك ... حجّ الفقراء

عن الكاتب

نزيهة  زعبار

نزيهة زعبار

كاتبة و مترجمة و مدققة لغوية

اقرأ ايضاّ