بداية الاسطورة:
في مساءٍ من أمسيات القرن العشرين، خرج الطبيب بن كارسون ليعلن أمام جمهوره أن الأهرامات المصرية لم تُبنَ لتكون مقابر، بل لتكون صوامع حبوب أقامها النبي يوسف استعدادًا لسنوات المجاعة السبع. بدا التصريح وكأنه ومضة عابرة من غرائب الحملات الانتخابية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى جدلٍ متواصل، إذ كرر كارسون قوله في مقابلات لاحقة، مؤكدًا أن الكتاب المقدس هو سند رؤيته، وأن "التقدميين العلمانيين" يسخرون من معتقد شخصي لا ينبغي أن يُمسّ بالنقد.
لكن التاريخ لا يرحم مثل هذه الادعاءات. فالنص التوراتي في سفر التكوين 41 يروي أن يوسف جمع القمح في كل مدينة مصرية، وحفظه في مخازن، دون أن يذكر الأهرامات قط. ومع ذلك، فإن خيال العصور القديمة المتأخرة نسج حول هذه المباني العظيمة أساطير جديدة. ففي القرن الخامس الميلادي، ظهر مخطوط "تكوين القطن" مصورًا الأهرامات كمخازن يوسف، بثقوب في قممها تُسكب منها الحبوب. ومنه استلهمت فسيفساء كاتدرائية القديس مرقس في البندقية (القرن الثالث عشر)، حيث تجسدت الأهرامات كصوامع مقدسة.
أما الكاتب الروماني يوليوس هونوريوس (حوالي 500م)، فقد وصفها في كتابه Cosmographia بأنها "مخازن يوسف"، دون تفصيل. ثم جاء جريجوري التوري عام 594م ليكتب في تاريخ الفرنجة أن مخازن يوسف كانت مباني حجرية عريضة عند القاعدة وضيقة عند القمة، وصفًا يشي بأنه تخيّل الأهرامات دون أن يراها. وفي القرن التاسع، حدّد الراهب ديكويل الأهرامات نفسها بأنها تلك المخازن، بينما ذهب البيزنطيون مثل نيكيتاس الهرقلي وكتاب Etymologicum magnum إلى القول إن كلمة "هرم" مشتقة من اليونانية بمعنى "حبوب".
وفي العالم الإسلامي، نقل الإدريسي في كتابه تاريخ الأهرامات (حوالي 1150م) هذه الأسطورة من مصادر مسيحية، بينما رفض مؤرخون مسلمون سابقون الفكرة وعدّوها بلا أساس. ومع ذلك، ظل الاعتقاد يتردد في الغرب، حتى أن الرحّالة جون ماندفيل في القرن الرابع عشر كتب أن "كل الناس هناك، قريبين وبعيدين، يقولون إنها مخازن يوسف، وهذا ما وجدوه في كتبهم المقدسة".
لكن مع ازدياد الرحلات إلى مصر، بدأت الحقيقة تتضح. ففي عام 1484، وقف رجل الدين الكاثوليكي برنهارد فون برايدنباخ أمام الأهرامات، وكتب في كتابه رحلة إلى الأرض المقدسة أن العامة يقولون إنها صوامع يوسف، لكنه رأى بعينه أنها ليست مجوفة من الداخل، فأسقط الأسطورة بضربة واحدة. ثم جاء البروفيسور جون جريفز في كتابه Pyramidographia (1646) ليصف الفكرة بأنها "غير لائقة للغاية"، إذ إن الأهرامات كتلة حجرية صلبة لا تصلح لتخزين الحبوب.
ومع ذلك، لم تمت الأسطورة تمامًا. ففي عام 1895، نشرت السيدة جين فان جيلدر كتابها مخازن الملك أو أهرامات مصر محاولةً إحياء النظرية "لدعم حقيقة الكتاب المقدس"، لكنها قوبلت بسخرية لا هوادة فيها.
السياق العلمي الحديث
اليوم، تؤكد الاكتشافات الأثرية والدراسات المعمارية أن الأهرامات بُنيت لتكون مقابر ملكية، خصوصًا للملوك من الأسرة الرابعة مثل خوفو وخفرع ومنقرع. وقد عُثر داخلها على غرف دفن، وممرات معقدة، ونصوص جنائزية، إضافة إلى بقايا مراكب جنائزية مثل "سفينة خوفو" التي اكتُشفت بجوار الهرم الأكبر. هذه الأدلة المادية القاطعة تنفي تمامًا إمكانية استخدامها كمخازن للحبوب، إذ إنها مصممة لتخليد فكرة الخلود الملكي لا لتلبية حاجات اقتصادية يومية.

هكذا نرى أن الأهرامات، تلك الكتل الحجرية الصامتة، لم تكن مجرد مقابر في نظر العصور الوسطى، بل شاشات إسقاط لخيالٍ ديني وسياسي. من سيرابيس، إله الحبوب في مصر الرومانية، إلى يوسف التوراتي، ومن فسيفساء البندقية إلى تصريحات بن كارسون، ظلّت الأهرامات تُحمَّل بمعانٍ تتجاوز وظيفتها الأصلية. والمفارقة أن محاولة "تنصير" الأهرامات في العصور القديمة انتهت بإعادة تدوير رموز وثنية في ثوب توراتي، لتعود اليوم في خطاب سياسي معاصر وكأنها لم تبرح مكانها.
Pyramids and Granaries – Ancient Bible History Blog
