رواية العمى: هل تُغير الأحداث الكبرى أخلاق الناس؟

قم بتسجيل الدخول للقيام بالتعليق
تسجيل الدخول
تأخذك رواية العمى - للكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل، جوزيه ساراماجو - في رحلة فلسفية مليئة بالتساؤلات والتأمل في الطبيعة البشرية، فمنذ إصدارها الأول عام 1995 أثارت هذه الرواية جدلاً كبيرًا وإعجابًا عالميًا، حيث تعالج سؤالًا وجوديًا ومقلقًا هو: كيف تتصرف البشرية عند تجريدها من إحدى أعظم قدراتها "البصر"؟
بداية الرواية وأزمة "العمى الأبيض"

كانت اللحظة الأولى عابرة وكأنها حلم سريالي باغت رجلاً وسط ازدحام المدينة، وقف الرجل عند إشارة المرور ينتظر الضوء الأخضر كغيره، ولكنه أحس بشيء غريب؛ فجأة، العالم من حوله أصبح ناصع البياض، وكأن أحدهم قد سكب ضوءًا كثيفًا على كل ما يراه، حاول أن يرمش؛ أن يزيل هذا "الضوء الأبيض" الذي غمر عينيه لكنه لم يفلح؛ قد صار عالمه صفحة بيضاء خالية من أي تفاصيل، لم يكن الرجل يعي أن تلك اللحظة التي تملّكها البياض تمامًا ستشكل البداية لعدوى عمياء كفيروس خفي يسري ببطء؛ ويمسك بعيون البشر فيصيبهم بالعمى واحدًا تلو الآخر، باءت محاولات الأطباء والعلماء وأهل المدينة، ولم يستطع أحد تفسير سر هذا "العمى الأبيض" الغامض، فبدون إنذار صار الناس يفقدون بصرهم تدريجيًا، كأن المدينة تُطفئ أنوار أبصار أهلها على مراحل، وبينما ينتشر العمى كالنار تتخلخل أسس المجتمع؛ فجأة يجد الناس أنفسهم في عتمة غريبة، يحاولون النجاة وسط هاجس الفقد والعجز، تتداخل مشاعر الرعب واليأس، ويتحول كل شيء حولهم إلى أصداء من الأصوات والصيحات، تٌسمع ولا تُرى، أصبح "العمى الأبيض" أكثر من مجرد مرض؛ بل صار عاصفة تُهدد بإسقاط المدينة في ظلام حقيقي، ظلام يكشف ما كانت العيون تبصره دائمًا، لكن دون أن تراه بعمق، إنها طبيعة البشر، بكل ما فيها من خوف ورغبة وصراع من أجل البقاء.
التدهور الأخلاقي وظهور القسوة

خلال فترة الحجر الصحي تنكشف الطبائع البشرية، عندما يختفي النظام، وتصبح القوانين صامتة! في هذا المجتمع يرسم ساراماجو مشاهد مروعة للتدهور الأخلاقي والانحطاط الذي يصيب الناس حين يجدون أنفسهم فجأة دون قيود تحكم تصرفاتهم، تتراجع القيم وتذبل الإنسانية تدريجيًا، حيث تتفشى القسوة وتظهر نزعات الجشع والسيطرة في أبشع صورها، لم تعد هناك مساحة للرحمة أو الإنصاف، إذ تعود الجماعة البشرية إلى عصور ما قبل التاريخ، متخلية عن كل مظاهر التحضر والأخلاق.
في عالم فقد أحد أعمدته - البصر - لا تعود الحقوق البسيطة متاحة؛ تصبح أبسط الحاجات كالغذاء والماء موضوعًا للصراع، ويتحول العنف إلى وسيلة للبقاء، يتسارع التدهور ليصبح الاغتصاب والجشع والاستغلال واقعًا يوميًا، كأنما لم يعد للإنسانية مكان بين الجدران الباردة للحجر، هناك في العمى المطلق، لا ترى العيون الظلام فقط، بل تشعر القلوب بثقل الوحشة وفقدان الكرامة.
يحمل هذا السرد رسالة رمزية عميقة، حيث ينبه ساراماجو إلى هشاشة الحضارة والتهديد الذي يطال الإنسانية إذا تُركت لتصارع غرائزها دون وازع أخلاق أو قانون.
يضع مؤلف رواية العمى القارئ أمام تساؤل مؤلم:
ما الذي يجعلنا بشرًا؟ وما الذي قد يحولنا، في لحظة يأس إلى نسخ ضائعة من أنفسنا؛ تغيب عنها القيم ويحل مكانها وحشٌ داخلي يهددنا بفقدان إنسانيتنا مدى الدهر؟!
"المبصرة" الوحيدة

وسط عالم غارق في العمى والفوضى، تبرز "زوجة الطبيب" كشخصية استثنائية ومصدر للضوء وسط الظلام، فهي الوحيدة التي لم تصب بهذا "العمى الأبيض" الغريب، لكنها تختار التضحية بحريتها ومرافقة زوجها المصاب إلى الحجر الصحي، حاملةً عبء "البصيرة"، تتحول هذه المرأة بإرادتها إلى "عيون" المجموعة، حيث تتنقل بين رفاقها في الحجر بهدوء وشجاعة، تقدم لهم الدعم، وتساعدهم على تجاوز محنتهم رغم ما يحيط بهم من قسوة وعنف.
في دورها الفريد تنكشف معالم جديدة للإنسانية، جانب نادر من التضحية والرحمة، لا يصمد فيه إلا من امتلك القوة على مواجهة الظلام الداخلي والخارجي، زوجة الطبيب، بعينيها المبصرتين وقلبها المتقد، تفتح نافذة تطل على صبر الإنسان عندما يُختبر في أشد الأوقات، في خضم محاولاتها اليائسة لتقديم العون، تجد نفسها تجسد معنى الرحمة، وتتحمل مسؤولية ثقيلة تتمثل في إبقاء شعلة الأمل متقدة في قلوب الآخرين، حتى وإن كان الأمل يبدو أمراً غير واقعي أو بعيد المنال.
يرسم ساراماجو من خلال "المبصرة الوحيدة" صورة ملهمة للأمل والتعاطف في عالم يكاد يخلو من كل مظاهر الإنسانية، فبدون أن تدعي البطولة، تصبح هذه المرأة شاهدًا حقيقيًا على ما تبقى من قيم البشر، وتحمل على عاتقها رسالة رمزية عميقة: أن النور الحقيقي لا يأتي من العيون فقط، بل من القلب القادر على الإبصار وسط عتمة لا نعرف لها نهاية.
نهاية مفتوحة وأسئلة بلا أجوبة

تترك "رواية العمى" القارئ في لحظةٍ من الحيرة والتأمل، إذ تختتم الرواية بنهاية مفتوحة لا تُسدل الستار على تساؤلاتها العميقة، بل تزيدها حدة، حين يتلاشى العمى فجأة كما بدأ ويعود الضوء إلى عيون الجميع، هل سيعود "النور" إلى قلوبهم؟!هل ستتعلم الإنسانية من هذه التجربة القاسية؟، أم أنها ستعود إلى نفس الأنماط السلبية التي سادت من قبل؟ يقودنا ساراماجو إلى التفكير في مأزق الإنسان المعاصر؛ فالرؤية شيء، والبصيرة شيء آخر تمامًا.
أثر رواية "العمى" وأبعادها الفلسفية

تشكل "رواية العمى" علامة بارزة في الأدب العالمي، إذ تعكس قدرة ساراماجو الاستثنائية على المزج بين الخيال الروائي والتحليل النفسي والاجتماعي، بأسلوبه المتفرد ولغته الرمزية، ينجح في تصوير واقع البشرية بصورة عميقة، كاشفًا عن جوانب مظلمة وطبيعة هشة تتكشف عندما تتعرض لضغوط غير مسبوقة، يتناول ساراماجو من خلال شخصياته وأحداث الرواية تعقيدات النفس البشرية، وصراع الإنسان الأبدي بين الفضيلة والأنانية، الرحمة والقسوة، مما يجعلها قراءة تتجاوز المتعة السردية إلى التأمل الفلسفي العميق.
"العمى" كرحلة في إنسانيتنا
ليست "العمى" مجرد حكاية عن وباء غامض يسلب البشر أعينهم؛ إنها رحلة عميقة في قلب الإنسان، وتعبير قوي عن المخاوف والتناقضات التي تشكل جوهر وجودنا، تذكرنا الرواية بأن البصر ليس مجرد قدرة على الرؤية، بل وسيلة للتفكر والنفاذ إلى أعماق الحياة. ففي كثير من الأحيان، قد يعمينا الطمع أو الأنانية، أو قلة الرحمة، فتكون قلوبنا عمياء رغم أن أعيننا مُبصرة.
المراجع
Zero Visibility , In José Saramago's harrowing novel, an epidemic of blindness breaks out.

أحمد عادل
كاتب محتوىمختص في مجال مبيعات الكتب وخدمة العملاء، أسعى إلى إثراء معرفة القارىء العربي بنشر جوهر المعرفة والأفكار الملهمة من أفضل الكتب العربية والعالمية.
تصفح صفحة الكاتب